شهر رمضان المعظم مدرسة تربوية كاملة لتهذيب النفس والارتقاء بالروح، والخروج من أسر الشهوات وأغلال الدنيا الفانية، إلى الغاية العظمى التى خلق الله الإنسان من أجلها وهى عبادة الله تعالى وعمارة الأرض ونشر الخير بين الناس، ولقد لخص الله تعالى غايات ومقاصد هذا الشهر الكريم فى كلمة واحدة وهى التقوى، وذلك فى قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون»، والتقوى هى الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والاستعداد ليوم الرحيل كما قال حبر الأمة ابن عباس رضى الله عنه، وعن سلمان الفارسى، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى آخر يومٍ من شعبان فقال: «يا أيها الناس قد أظلكم شهرٌ عظيمٌ، شهرٌ مباركٌ، شهرٌ فيه ليلةٌ خيرٌ من ألف شهرٍ، جعل الله صيامه فريضةً، وقيام ليله تطوعًا، من تقرب فيه بخصلةٍ من الخير كان كمن أدى فريضةً فيما سواه، ومن أدى فريضةً فيه كان كمن أدى سبعين فريضةً فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهرٌ يزاد فى رزق المؤمن، من فطر فيه صائمًا كان له مغفرةً لذنوبه، وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شىءٌ» قلنا: يا رسول الله، ليس كلنا يجد ما يفطر الصائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يعطى الله هذا الثواب من فطر صائمًا على مذقة لبنٍ أو تمرةٍ أو شربةٍ من ماءٍ، ومن أشبع صائمًا سقاه الله من حوضى شربةً لا يظمأ حتى يدخل الجنة، وهو شهرٌ أوله رحمةٌ، وأوسطه مغفرةٌ، وآخره عتقٌ من النار»، إذا تأملنا فى هذه المعانى النبوية التفصيلية نجد أنها عبارة عن شرح وبيان دقيق لمعنى التقوى الذى أجمله القرآن الكريم ووضحته السنة المطهرة فلن يرجى فهم صحيح للقرآن إلا من خلال السنة المشرفة، فصيام النهار عبارة عن حرمان النفس من المباحات وهذا الحرمان يعود النفس فيما بعد على ترك فضول الطعام وفضول الكلام وفضول الأنام، لأن أزمة الإنسان الحقيقة هى فى التكاثر المحموم الذى قال الله فيه «ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر»، وليس التكاثر محصورا فى كثرة إنجاب الأولاد، بل هو النهم والجشع والطمع والرغبة فى امتلاك أكبر نصيب من متاع الدنيا كما قال الله تعالى «اعلموا أنما الحياة الدنيا لعبٌ ولهوٌ وزينةٌ وتفاخرٌ بينكم وتكاثرٌ فى الأموال والأولاد كمثل غيثٍ أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطامًا»، فهذه الأشياء الفانية وهم كبير وعرض زائل يلهث خلفه الإنسان، يستهلك الإنسان فيها طاقته وعمره، ثم لا يلبث أن ينقلب إلى الله تعالى فيحاسبه على ذلك كله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، بيد أن الإنسان الذى يتاجر مع الله تعالى فيجعل فضل ماله مسخرا لخدمة وطنه ومساعدة خلق الله تعالى من ذوى الحاجات والفقراء قد ربح بيعه ونفعه عمله وجمعه للمال وتكاثره فيه، هذا ما يعلمنا أياه الصيام فى مدرسته العظيمة، أما قيام الليل فهو مدرسة الخلوة بالله تعالى والمثول بين يديه ومناجاته بكل خضوع وتواضع مع خلع رداء الأنا والكبر، وهو فرض فى حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، سنة مؤكدة فى حق أمته فى رمضان وفى غير رمضان، وقيام الليل هو شرف المؤمن، وهو مدرسة السلف الصالح، الذى قال أحدهم عالجت قيام الليل سنة واستمتعت به عشرين سنة، ومن صلى بالليل حسن وجهه وخلقه بالنهار، إذا دخل المسلم بقلبه وروحه هذه الخلوة خرج وانخلع من وهم العبادة الظاهرية التى لا تنفذ إلى القلب ولا تؤثر فى الروح ولا تهذب النفس ولا متنع عن ظلم ولا معصية.