تُغطى صفحات جرائد، وتُملأ ساعات الهواء بالحديث الطويل عن المؤامرات التى تُحاك ضد مصر -خاصة فى الظلام هكذا يفضل الجميع وصفها- لا أقلل من جدية هذا الرأى الذى أصبح يقينًا إذا ما نظرنا إلى كل ما يجرى حولنا، ولكن لماذا لا يتحدث أحد عن المؤامرة التى تدبر ضدنا نحن ضد المصريين أنفسهم، فما يحدث فى التعليم الآن فى مصر تحت سمع وبصر الدولة لا يمكن وصفه إلا بالمؤامرة.
مؤامرة على مستقبل جيل كامل من حقه أن يحلم بغدٍ أفضل، أن يبنى أحلاًام يعتمد فيها على قدراته لا على المحسوبية والواسطة، ولكن كيف يملك أبناء البسطاء القدرات -التى تُعين على المستقبل- إذا أصبحت مرهونة بما لا يملكونه، فالمستقبل أصبح لمن يملك أكثر.. من يملك مالا.. من يملك نفوذًا.. من يملك حاضرًا مزدهرًا من حقه أن يرث مستقبلاً أكثر ازدهارًا، أما أبناء الفقراء عليهم أن يرثوا مستقبلا كحاضرهم، إن لم يكن أكثر بؤسًا.
بالأمس كان أبناء الطبقات الفقيرة أو من يُسمون مجازًا طبقة متوسطة يتذمرون من الغُبن الواقع على أبنائهم فى فرص العمل رغم المؤهل الجامعى الحاصلين عليه إلا أن الوظائف المرموقة تعرف أصحابها جيدًا من ميسورى الحال، والنسب، والنفوذ، أما الفقراء فلهم العلم بلا عمل.
اليوم أصبحوا يستكثرون على أبناء الغلابة "العلم" حتى وإن كان بلا عمل، فى الأمس ضاقوا بالأصوات المطالبة بحقوقها فى فرص عمل تليق بالمؤهلات العليا، فكيف السبيل للقضاء على أسباب ثورتهم؟ الحل قطع طريق التعليم الجامعى أمامهم، فلا يملكون مؤهلا جامعيا يصدعون به رأس الدولة ليل نهار، ولكن التعليم الجامعى "مجانى" فكيف السبيل إلى منعهم من دخول الجامعة؟ الحل فى خصخصة التعليم الجامعى، ولكن صعوبة تحقيق ذلك بشكل مباشر أدى إلى ظهور أشكال أخرى للخصخصة للانقضاض على مجانية التعليم، جاءت فى صورة أقسام اللغات التى اجتاحت الكليات الحكومة منذ سنوات بمصروفات تصل إلى آلاف الجنيهات سنويًا تلك الأقسام بمثابة أولى الخطوات الجادة لخصخصة التعليم الجامعى عبر إتاحة تعليم جامعى متميز لمن يملك ثمنه لتنهار بالتدريج أسطورة مجانية التعليم الجامعى، فالقائمون على شئون التعليم الجامعى يرون أن أبناء الفقراء لا يحق لهم الدراسة باللغات الأجنبية، ويجب أن يحمدوا الله، والدولة لأنها توفر لأمثالهم فرصة دخول الجامعة من الأساس.
إذا كانت محاولة حرمان الفقراء من دخول الجامعة صعب على المستوى القريب -لكن قطار مجانية التعليم الجامعى انطلق من المحطة بلا رجعة- كان الحل فى قطع الطريق بيد الفقراء أنفسهم، أن يتخلوا عن أحلامهم فى المستقبل بتحويل مرحلة ما قبل الجامعة –الثانوية العامة- إلى جحيم لا يحتمله أحد، الجحيم الذى يجب أن يَرِده كل من هيأت له نفسه يوما أن يحلم.. يحلم أن يكون طبيبا وهو الأصل ابن بواب.. يحلم أن يكون مهندسًا وهو ابن غفير.. يحلم أن يكون محاميًا مرموقًا وهو ابن فران . يحلم أن يكون أستاذًا جامعيًا وهو ابن سباك.
ليس من حق هؤلاء وغيرهم كثيرون أن يحلموا بمستقبل يختلف عن حاضرهم، لأن أمثالهم محاصرون بقلة الحيلة، ومؤامرة أباطرة التعليم الخاص، ومباركة الحكومة بصمتها عن ملف التعليم.
- هل يدرى القائمون على شئون التعليم أن الثانوية العامة لم تعد خيارًا مطروحًا لأبناء الفقراء حتى لو كانوا من المتفوقين دراسيًا، لأن ميزانية الأسرة لن تحتمل أن يقتطع منها الأب 700 جنيه -كحد أدنى- لبند الدروس الخصوصية.
- هل من الممكن أن يكون كل هذا صدفة أم مؤامرة يستحوذ بها الأغنياء على الثروة والسلطة والعلم، بينما يخيم على الفقراء جهل يقطع كل أمل لهم فى مستقبل أفضل.