شهر رمضان شهر النفحات الإلهية والمنح الربانية، يتجلى الله فيه على عباده بالكثير من الخيرات والبركات ومضاعفة الأجر والثواب، ويسعى كل مسلم فى أيامه ولياليه المباركة لاغتنام الأنوار والفيوضات الإلهية بالإقبال على العبادة والذكر والقيام وقراءة القرآن والصدقة والدعاء، وهى أمور جليلة عظيمة «وفى ذلك فليتنافس المتنافسون» ومن الجيد أن يحرص بعضنا على الإكثار العددى من قراءة أجزاء القرآن الكريم، وأعداد الركعات، ومقدار الصدقات وغير ذلك إلا أنه لا ينبغى أبدا أن ننسى «الكَيف» أى الجانب الروحى الذى يثمر مع الأجر والثواب الجزيل ثمرة أخرى ذات أهمية، حصر الله تعالى فيها مقاصد تشريع الصيام وقصره عليها بقوله: «يا أيها الذين آمنُوا كُتب عليكُمُ الصيامُ كما كُتب على الذين من قبلكُم لعلكُم تتقُون».. ولعل الحكمة من اختصار كل مقاصد الصيام فى كلمة التقوى أنها جماع فعل الخير كله، وتجنب جميع ما يغضب الله تعالى من الصغائر والكبائر، فالتقوى كما قال حبر الأمة ابن عباس رضى الله عنه: هى الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والاستعداد ليوم الرحيل. انتهى، والخوف من الله تعالى يورث الاستحياء منه تعالى عند اقتراف الذنوب والمعاصى فيحاول الإنسان جاهدا ألا يقربها أبدًا لأنه يعلم أن الله تعالى ناظر إليه، ومطلع عليه، يسمع ما يعلن وما يسر، روى الترمذى عن عبد الله بن مسعُودٍ، قال: قال رسُولُ الله صلى اللهُ عليه وسلم: «استحيُوا من الله حق الحياء. قال: قُلنا: يا رسُول الله إنا نستحيى والحمدُ لله، قال: ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ولتذكُر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء»، كل هذه الثمرات الجليلة تعنى المحافظة على النفس الإنسانية من أن تخالطها أدناس المحرمات الحسية كأكل الحرام وتناول المحرمات، أو المعنوية التى تفسد العقل من الأفكار الهدامة المتطرفة أو الخرافات أو ما شابه ذلك. ومن المعانى الرائعة للتقوى أيضًا أن يجدك الله حيث أمرك، وأن يفتقدك حيث نهاك. كل هذه الأوصاف تحفز همة الصائم وتقوى عزمه على استجلاء المعانى التى ترتقى بالروح وتهذب النفس وتعلو بهمة الإنسان فى مدارات الترقى التى لا نهاية لها للوصول إلى الله تعالى، ولا شك أن ممارسة العبادات على هذا النحو سوف تثمر أخلاقا راقية ومعاملات طيبة، وسوف ينعكس هذا كله على حياة الأفراد والمجتمعات بشكل إيجابى حضارى، فإن صلاح المجتمعات ورقيها يتوقف حتما على صلاح الأفراد واستقامة سلوكهم، فيجب أن يخرج الإنسان نفسه من بوتقة العبادة الشكلية السطحية التى لا تثمر ثمرتها الحقيقية التى أرادها المولى عزو وجل فى واقع الإنسان وحياته ومجتمعه، وأكبر دليل على ذلك ما رواه البخارى عن أبى هُريرة رضى اللهُ عنهُ، قال: قال رسُولُ الله صلى اللهُ عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجةٌ فى أن يدع طعامهُ وشرابهُ»، وقال النبى صلى الله عليه وسلم، فى امرأتين أكلتا لحوم الناس غيبة ونميمة «إن هاتين صامتا على ما أحل الله، وأفطرتا على ما حرم الله عليهما، جلست إحداهُما إلى الأُخرى فجعلتا تأكُلان لُحُوم الناس» رواه البخارى. إن الإصلاح الذى نرجوه ونجهد أنفسنا فى طلبه، ليس بعيدا عنا، ولا يحتاج إلى جهد جبار منا، إنه قريب باستجلاء المعانى الروحية والأسرار القلبية والقيم الأخلاقية الكامنة فيما شرعه الله لنا من عبادات لم يرد منا أبدا ظاهرها الحسى من امتناع عن المباحات فى الصيام، أو قيام وركوع وسجود فى الصلاة، أو تحريك الألسنة كالآلات بآيات القرآن الكريم، لكنه سبحانه أراد أن يكون الامتناع الحسى نابع من استقامة القلب بخلوه عن الأمراض الباطنة كالرياء والحسد والكراهية، وأراد من تشريع الصلاة الخشوع والخضوع الكامل والدينونة التامة لله تعالى حتى تكون سمة لكل إنسان ومنهجا لحياته، وأراد من تلاوة الذكر الحكيم تدبر كلام الله تعالى وفهم معانيه والعمل به.