فى خضم الأحداث الجارية من زخم سياسى وحراك مجتمعى من حولنا جميعًا هذه الأيام، أتى "شم النسيم"، فتنبهت أنه ليست كل الحياة يجب أن تكون شقاء للسعى إلى مال أو إلى مباراة فى رفعة المناصب، بل الحياة أيضا يمكن أن تكون استمتاعا بجمال الطبيعة ولو لحين.
فكرة قد يراها البعض خفيفة الوزن تافهة القيمة عند أهل الوقار. وأن معظم أسباب الترفيه لا تتفق على ما يجب للرجال من إطراق طويل وسكون عميق وجهود على المأثور عن السلف الصالح القريب، كأن الأمة - يجب أن تكون - لها من أهل السياسة والاقتصاد دون التأمل بالطبيعة، يضحون قوة العقل لإصغاء الروح حتى تنزع بجهتها القدسية عن هذا العالم الدنيوى إلى الملكوت الأعلى.
ولو أنهم أرادونا على احتباس النفس عن لهو الدنيا ولعبها إلى العمل للآخرة ونعيمها، لكان فيما يهدون إليه من التقليد مغنم. ولكن الحال قد تبدلت إلى صرف النظر عن جمال الطبيعة ونعم الحياة الإنسانية إلى أخس أطراف هذه الحياة، الحرص على الصراع مع الغير ومع النفس أحيانا، والحرص على فقد الحرية فى كل شىء حتى فى الذات البريئة، حتى فى العناية بغرس الأشجار وتوليد الزهور.
الحرص على فقد الصراحة فى كل عمل حتى الأعمال الشخصية تقف عن الظهور بتعرف الجمال الذى خلقه المولى عز وجل حيث كان، وعن إعلان حب الجمال، وعن التعبير بحب الأزهار واستقبال الربيع بالتحية والارتياح، بدلا من الاستغراق فى اللذات المخجلة بشرط أن تكون خفية حتى لا تجرح قدسية الوقار المصطنع!
ربى!.. كل ما خلقت تابع لقانون التطور حتى المعانى والأفكار، فالذين تجردوا من مزايا السلف الصالح فى علم يفيد وجد ممتع وسيرة طابت ظواهرها وبواطنها قد اكتفوا من أسلافهم بتقليد شىء واحد لم يقدروا إلا عليه وهو صورة ظاهرة من الإطراق لا فى التفكير والسكون، بل هو مظهر يقتضيه الوقار السياسى والاجتماعى! فإذا تحركت النفس الإنسانية فى هذا الجسم الوقور، فإنما حركتها إلى الشهوات العالية من اغتباط حقيقى بجمال الطبيعة، وتقدير صحيح لما أودع فى الفنون من كنوز الجمال .
ها نحن أولاء أمام موسم الربيع، أزهاره تنسم أنفاسنا، وتحرك جدتها عواطف الحنان فى قلوبنا، إن مرآها تنقل نفوسنا من عالم الشقاء إلى عالم النعيم، ومن أرض الحقيقة إلى سماء الخيال الجميل. ليس جديدًا علينا نحن بنى الإنسان أن نعلن مشاعر الاغتباط، ونسدى عبارات الإعجاب بالحياة وجمالها، كنا ولا نزال نبتهل إلى موسم الربيع ونتغنى بالطبيعة، ولا مانع لنا من أن نستوفى قسطًا من الحياة على أكمل ما نستطيع نبلو مرّها ونطعم حلوها ولو ليوم واحد، ننسى آلامنا فيها بما يسحرنا من جمال زهور الربيع والطبيعة وجمال الخالق.
يا شعب مصر، علموا أبناءكم حب الجمال، ونموا فى نفوسهم ملكته. ليعلموا أن الحياة ليست جحيم الهموم ولكن فيها لمحات من النعيم . إن حب الجمال والطبيعة من الإيمان بالله ويرفع النفس إلى لذائذ أطهر طبعا، وأسعد أثرا، وأبقى فى العواطف، نتيجة من كل ما عداه من لذائذ الحياة. وأن أبسط موضوع لتعرف الجمال والمران به، أزهار الربيع وجمال الطبيعة .
ولنطرح جانبًا كثيرًا مما ورثناه من قبح عن ماضينا القريب، لأن الحياة ليست شقاء خالصًا بل هى يومان: يوم للشقاء ويوم للنعيم، ويأخذ الذكى بنصيبه من الالتفات للظواهر الطبيعية، كما يحرص على الاستفادة من الظواهر الاجتماعية والسياسية والحوادث الاقتصادية. ولعل الغرب ضرب لنا أفضل مثال فى تقسيم وقت الحياة بين الجد واللعب، فللمتعة وقتها وللعمل الجاد وقته، ولا تعارض بين الاثنين أبدًا.