لا يولد السلام بين الأديان في عالم الاعتقاد بل فى عالم من الفهم والاعتراف وقبول الآخر، وليس الإقصاء والمعلومات المغلوطة المشوشة.
فى أثناء زيارتي لأستاذي فى مرحلة الدكتوراة وجدته متجهما وقد اعتدت أن أراه باسما بشوشا، فسألته عن السبب فقال لي:
"هذه رسالة ماجستير قدمها شيخ وإمام جامع، يتناول قضية ما فى الديانة اليهودية وهو فى الأساس لا يعترف بها، وأول جملة بدأ بها رسالته أن الكتب السابقة محرفة، أى أول القصيدة كفر يا أستاذ".
وحكى لى الكثير عن طلبة دراسات عليا يدرسون الهندوسية أو البوذية أو الكونفوشيوسية وهم يرونها مجرد ثقافات ضالة، رغم كون أتباعها بالملايين خصوصا فى آسيا.
والأمثلة كثيرة من نماذج دارسين كونوا افكارا مسبقة وتحيزا أعمى عن مذاهبهم ومعتقداتهم، فلم يعترفوا بالآخر الشريك معهم في الإنسانية.
وأذكر أن باحثا فى إحدى كليات الآداب بجامعة إقليمية بنى رسالته للماجستير عن الشاعر الأموي الأخطل الكبير على أساس كثرة استخدام رقم ثلاثة فى شعره أى رمز الثالوث، وهنا قالت له لجنة الحكم والمناقشة التي كان يرأسها المرحوم الدكتور رمضان عبد التواب عميد آداب عين شمس الأسبق: أنت مخطئ تماما، ذلك أن الأخطل التغلبي(ت710م) كان من المسيحيين الموحدين فى العراق الذين لا يؤمنون بالتثليث، وفى سيرته لم يكن متدينا وكان يحتسي الخمر، ثم أنه كان شاعر الدولة الأموية وصديقا للخلفاء حتى جعله الخليفة عبد الملك بن مروان شاعر الدولة والمدافع عنها ضد أعداءها ولذلك معظم أشعاره وظف فيها القرآن وظل على دينه حتى وفاته، وهذا يحسب للحضارة الإسلامية.
إذا هناك إشكالية تتعلق بدارسي الأديان أنفسهم وليس فى الديانات، مشكلة الأحكام المسبقة التي تولدت لدى هؤلاء نتيجة تراكمات فى أسلوب التربية والتعليم، وكبرت معهم حتى أصبحت أفكارهم مشوشة وأحكامهم قيمية
غير منطقية، رغم حكمة التعدد والاختلاف قال الله تعالى فى القرآن الكريم : ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالوا مختلفين (هود 118).
وقد ورد فى الأثر كما ذكر كتاب "نزهة المجالس ومنتخب النَّفَائِسِ" للصفوري أن الله تعالى عاتب أبا الأنبياء إبراهيم عليه السلام فى ضيف لم يكرمه، لأنه سأله عن دينه وعرف منه أنه غير مؤمن، لذلك لم يضيفه، وقال له ربنا: أمن أجل ليلة تستقبله فيها تريد أن تغير دينه، بينما أنا أرزقه أربعين سنة وهو كافر". وبغض النظر عن مدى صحة إسناد تلك القصة، إلا أن الصفوري أراد إثبات أن إكرام الضيف للجميع بدون استثناء لا لدين أو عرق أو جنس أو لون.
القضية هنا ليست رسائل جامعية توضع على أرفف المكتبات، حتى يطالها التراب دون أن تستفيد منها المجتمعات، بل أن تكون دراسة الأديان دراسة حقيقية متعمقة مرتبطة بقضايا الواقع الراهن أو إعادة قراءة التراث الديني قراءة واعية، وبإشراف من علماء متخصصين أصحاب مناهج علمية وليست رؤى وأهواء ذاتية، وأن يخضع الدارس لاختبارات دورية وفحص وتقويم على مدار دراسته من خلال بحوث وحلقات نقاشية تجمع مختلف أصحاب الأديان، لمعرفة مدى قبوله الاختلاف والتسامح مع الآخر المختلف عنه دينيا ومذهبيا، والانفتاح على الثقافات والأفكار وعدم التحيز والتعصب المسبق أو الإساءة للآخر والتطاول عليه، واعتماد منهج الحوار والرد بموضوعية وبالحكمة والحجة والبرهان.
إن دراسة الأديان تهدف إلى التعرف على المشتركات الروحية فالوصايا العشر.. لا تقتل، لا تسرق، لاتزنى.. الخ مشتركة بين الديانات. والدعوة للعمران البشري والتنمية ونبذ الحروب والمشاحنات والعدوان على البيئة قضايا تحث عليها الديانات المختلفة.