رغم بدهيات وجوب حفظ الأنفس والأعراض والأموال، إلا أن بعض الشواذ عن جمهرة الشعوب حيثما وجدت؛ كأنهم لا يعرفون هذه البدهيات، ومن هؤلاء بعض أتباع الديانات السماوية بما فيها الإسلام، فلا يخفى على منتسب إلى دين، خاصة ديننا الإسلامى؛ أن هذه الثلاثة يضاف إليها الدين والعقل: هى مقاصد الشريعة التى جاءت لتحفظها على الناس بجملة ما فيها من أوامر ونواهٍ وتوجيهات سلوكيّة وأخلاقية، فيعرف أتباع الديانات أن قتل نفس واحدة بمثابة قتل البشرية كاملة، وأن القاتل المتعمد ما لم يتخلص من أثر جريمته بقصاص أو دية أو عفو من أولياء الدم؛ فإن عقابه الخلود فى نار جهنم، وأن الأعراض نزل فى شأنها العديد من النصوص الموجبة لصيانتها، والمحرمة لكل صور الاعتداء عليها، وأن الرجم أو الجلد عقوبة المعتدى عليها بالفعل، وأن الجلد والوصف بالفسق وإسقاط المروءة بعدم صلاحية الشهادة عند القاضى عقوبة المعتدى على الأعراض بالقول، القذف، وأن الأموال تزاحمت النصوص على صيانتها وتنميتها، وعدم المساس بها ما لم يكن استيفاء لحق شرعى أو بشرى، وأن الغاصب لها يجتهد القاضى فى عقابه تعزيرا مع إلزامه برد ما غصبه للمغصوب منه، وأن قطع اليد عقوبة المعتدى عليها بالسرقة، وأن القتل، أو الصلب، أو قطع اليد والرجل من خلاف، أو النفى، عقوبة المعتدى عليها حرابة لله ولرسوله وإفسادا فى الأرض وقطعا للطريق، وهى جرائم الإرهاب بمعناها المعاصر. ومع ذلك ترى هؤلاء يرتكبون أبشع الجرائم المتعلقة بالنفس أو العرض أو المال، بل وصل الحال بهم إلى زعم أنهم يرتكبون هذه الجرائم طاعة لله وسعيا لإقامة شرعه؛ حيث يرون المجتمعات كافرة وأموالها مباحة لهم ومن على شاكلتهم! ومن هذا المنطلق أصبح القتل على الهوية وانتهاك الأعراض طاعة وجهادا، ونهب الأموال غنائم فى اعتقاد هؤلاء، ولذا كان من الضرورى أن يتصدى الأزهر برجاله وعلمهم لهؤلاء ومن على شاكلتهم، كاشفا زيف فهمهم وزعمهم ومفندا لشبههم، من خلال العديد من المؤتمرات والندوات والبرامج التوعويّة والمؤلفات العلميّة والمنصات الإلكترونيّة ..وغيرها، وفوق كل هذا أصدر الأزهر على هامش مؤتمره للتجديد هذه الوثيقة التى أطلق عليها، وثيقة الأزهر لتحريم الدماء والأعراض والأموال، وذلك باسم العلماء الذين شاركوا فى أعمال المؤتمر على اختلاف دولهم ومذاهبهم وأعراقهم، وهى وثيقة لم تنل حظها من النشر رغم أهميتها القصوى وإليكم نصها:
«انطلاقًا من توجيهات الكتب السماويَّة، والسُّنَّة النبويَّة المحمديَّة التى كرَّمت النَّفْس الإنسانيَّة فى قولِه – تعالى-: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ»، وتحقيقًا للمقاصِد العُليا للشَّرائع الإلهيَّة التى اتَّفقت على حُرمَة دم الإنسان وعِرضه وماله، حمايةً للناس وللمجتمعات، وحسمًا لكل الذرائع التى يتعلل بها القتلة وسفَّاكو الدماء فى استباحة حرمات مخالفيهم فى الدِّين أو المذهب، وإراقة دمائهم حتى وهُم فى دور العبادة من مساجِدَ وكنائسَ ومعابِدَ.
وانطلاقًا من هذه الأركان الثوابت التى لا تقبل الجدل ولا المماحكة ولا التستر تحت عباءاتها، نؤكِّد نحنُ علماء المسلمين المشاركين فى مؤتمر الأزهر العالمى الأوَّل للتجديد فى الفِكر الإسلامى، والمنعقد بالقاهرة فى الفترة من 2-3 جمادى الآخرة 1441هـ، الموافق 27-28/1/2020م، والممثلين لمختلف التوجهات العقديَّة والمذهبيَّة من مختلف الدول والقوميات والأعراق والطوائف –على:
أولًا: حرمة دماء الناس وأعراضهم وأموالهم؛ بغض النظر عن الاختلاف فى الدين أو المذهب أو العرق أو الطائفة أو اللون أو اللُّغة، وأنَّ الاعتداء عليها أو على واحدةٍ منها جريمة نكراء، وكبيرة من أعظم الكبائر، ونعلن أنَّ قتل نفس واحدة بغير حقٍّ يُعادل فى بشاعة الجُرم قتل البشريَّة كلها، قال تعالى-: «مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا»، كما نلفت أنظار البشريَّة جمعاء إلى الخطاب الأخير لنبى الإسلام -ﷺ- فى حشد حجة الوداع والذى بدأه بقوله: «أيُّها النَّاس! إنَّ دماءَكم وأموالَكم حرامٌ عليكم إلى أن تلْقَوا ربَّكم، كحرمةِ يومِكم هذا فى شهرِكم هذا فى بلدِكم هذا، وإنَّكُم سَتَلْقَون ربَّكُم فيسألُكم عن أعمالِكم. ألا هل بلَّغتُ. اللهم فاشهد».. وكان هذا الخطاب بمثابة دستور وضعه للناس جميعًا وليس للمسلمين وحدهم وهو يودِّعهم الوداع الأخير.
ثانيًا: براءة الكتب السماويّة وعلماء الإسلام ورجال الدِّين الأوفياء لأديانهم فى مشارق الأرض ومغاربها؛ براءتهم من كل مرتكب لجريمة قتل، أو اعتداء على عرض، أو مال أو ترويع للآمنين أيًّا كان هؤلاء الآمنون، وكائنةً ما كانت أديانهم ومعتقداتهم وثقافاتهم.
ثالثًا: رفضنا القاطع لكل جرائم العدوان على النَّفْس البشريَّة: خاصة جريمة القتل على الهويّة وجريمة استرقاقِ النِّساء، أو سَبيِهُنَّ، مُسلماتٍ كُنَّ، أو غير مُسلمات.. وجريمة اختطاف الأطفال ونقلهم من مكان إلى مكان، وتجنيدهم جبرًا، وتكليفهم ما لا يطيقون تحت أىَّ ذريعة من الذرائع
. ويُذَكِّر العُلماء المجتمعون بالمؤتمر بأنَّ شريعة الإسلام لا تبيح سفك دماء المسلمين ولا دماء غير المسلمين، اللهمَّ إلَّا دفعًا لعدوان، أو استيفاءً لعقوباتٍ يحكم بها القضاء، والقضاء وحده، حُكْمًا جازمًا لا مجال فيه لمراجعة أو تأويل قريب أو بعيد. ويسرى ذلك على عرض الإنسان وماله وأمنه وأمانه.
رابعًا: وفى شأن العلاقات الدوليَّة يؤكِّد العلماء على أنَّ الأصل فيها السَّلام والتعايش والتعاون بين الناس، وأن اختلاف الدِّين لا يبيح القتل ولا القتال، وليس من حق فرد أو جماعة أو مؤسسة أن تنفرد بالحكم على الآخرين بالكفر تمهيدًا لإزهاق أرواحهم وسفك دمائهم.
خامسًا: لا يحق لأيَّة جماعة من الجماعات أن تحملَ السِّلاح وتُبيحَ لنفسِها قتل المواطنين الآمنين أو قتل الجنود المكلَّفين بحفظِ الأمن فى داخل البلاد وعلى حدودِها. وعلى المسؤولينَ وأُولى الأمر أن يطبقوا القصاص على كُل مَن يجرؤ على ارتكاب هذه الجرائم.
وليعلَم الجميع أنَّ الجهاد بمعنى القِتال هو مسؤوليَّة خاصَّة على وزارات الدِّفاع، وأنَّ الإذن فى القِتال لا يَملكه إلَّا رؤساء الدول أو مَن يفوِّضونهم مِن قادَة الجيوش.
وأخيرًا نُطالب نحن الموقِّعين على هذه الوثيقة جميع مَن خلفنا مِن شركائنا فى الدِّين والوطن الالتزام بأحكام شرائعنا، وعدم تحميلها ما ليس فيها. اللهم بلغنا اللهم فاشهد».