مصر لها موقف ثابت تجاه الأزمة الليبية منذ سنوات، هو رفض التدخل الأجنبى فى ليبيا، والإصرار على حل يأتى من مختلف الأطراف داخلياً، سواء الكيانات السياسية، أو العسكرية أو القوى المعارضة، أو قوى المجتمع المدني، أو تحالفات وتفاهمات القبائل، إضافة إلى التغيير الإجمالى فى المشهد الكلى للتحالفات الدولية بشأن ليبيا، فالحدود بين مصر وليبيا تمتد لنحو 1100 كيلومتر، ويبقى خط الحدود الفاصل بين مصر وليبيا أحد المصادر الذى يؤرق دوماً الدولة المصرية، لما يمثله من مصدر نشط للتهريب بأنواعه كافة، بداية من الإرهاب والسلاح مروراً بتجارة البشر والمخدرات.
منذ ظهور الدور التركى فى الملف الليبي، سواء عسكرياً أو سياسياً، جعل مصر تتبنى نهجاً مختلفاً إزاء الأزمة الليبية، هذا يعنى أن مصر تشهد حالة من التغير تجاه دورها الدبلوماسى فى الملف الليبي.
بعد التدخل التركى، القاهرة لن يكون موقفها كما كان، حيث باتت هناك محددات خاصة بالأمن القومى المصرى من جراء الوجود التركى فى المياه الإقليمية الليبية، والسماح له بالتدخل العسكرى فى الغرب الليبي.
والمحير هنا هو موقف الولايات المتحدة الأمريكية الذى يمثل تساؤلاً آخر، فهل هى داعمة للتحرك التركى وحكومة الوفاق الوطني، أم مجلس النواب والجيش الوطنى الليبي، أم فكرة التهدئة والتسوية السياسية من خلال التفاوض عبر منظمات المجتمع الدولي؟
فى الوقت نفسه تكثف قطر وتركيا من تحركاتهما لدعم حكومة طرابلس الخاضعة لسيطرة تيارات الإسلام السياسي، وخاصة أن طرابلس باتت موطئ القدم الأخير لهذه التيارات الإرهابية والمعروف موقفها من مصر.
الحقيقة أن الدور الأمريكى فى ليبيا بات فى حالة من التراجع المستمر منذ تولى إدارة ترامب مقاليد الأمور فى البيت الأبيض، وهو ما يعنى أن الولايات المتحدة تنظر أكثر إلى الملف الليبى من منطلق حالة ما بعد الصراع، وهو ما يتعلق بإعادة التسليح وإعادة الإعمار، وهى المشروعات التى تحقق لها الكثير من العوائد المالية.
اما الاتحاد الأوروبى فما زال فى أزمة صناعة القرار الجمعى بشأن الملف الليبي، إذ يوجد كثير من القضايا الخلافية بين الدول الأعضاء داخل الاتحاد على أكثر من مستوى، ما ترتب عليه عدم الانشغال بالوجود الأوروبى فى منطقة شمال إفريقيا وجنوب المتوسط، ولم يعد من الشئون التى من الممكن أن يتخذ الاتحاد قراراً خاصاً بها، خاصة بعد انشغاله وغرقه فى أزمة كورونا.
ولاتزال الأزمة الليبية تشهد تطورات يوماً بعد يوم، وعلى مستويات متعددة، لكن المشهد فى الآونة الأخيرة خلق عدداً من الانعكاسات على الصعيدين الإقليمى والدولى، ولعل نقطة البداية كانت توقيع مذكرات التفاهم بين الدولة التركية وحكومة الوفاق فى طرابلس بقيادة فايز السرّاج.
الدور المصرى الفاعل فى الحفاظ على أمن واستقرار ليبيا، وحماية الشرعية البرلمانية بالبلاد، يعبر عن حالة استياء شعبية ليبية وعربية من التدخلات الخارجية فى شئون ليبيا، والمتمثلة فى التدخل العسكرى التركي، فالأمن القومى الليبى يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالأمن القومى المصرى فى ظل حقائق الجغرافيا السياسية التى تربط بين البلدين، علاوة على علاقات المصاهرة والقربى المتشعبة بين القبائل المصرية والليبية المنتشرة فى كلا البلدين.
الرئيس عبدالفتاح السيسى دائماً يؤكد على ثوابت موقف مصر الداعم لاستقرار وأمن ليبيا، وتفعيل إرادة الشعب الليبى، وكذلك مساندة جهود الجيش الوطنى الليبى فى مكافحة الإرهاب والقضاء على التنظيمات الإرهابية، التى تمثل تهديداً ليس فقط على ليبيا بل على الأمن الإقليمى ومنطقة البحر المتوسط، ورفض كل التدخلات الخارجية فى الشأن الداخلى الليبى خاصة بعد التصريحات المستفزة من وزير الطاقة التركى بأن بلاده ستبدأ التنقيب عن النفط فى سواحل ليبيا خلال 3 أشهر، فى الوقت نفسه تنقل تركيا عناصر داعش من سوريا إلى ليبيا للقتال هناك، حيث إن تركيا تحاول الخلاص من عبء عناصر ومرتزقة داعش فى مناطق سيطرتها فى سوريا عبر نقلهم إلى ليبيا، ولا هدف للسلطان «المهووس» رجب طيب أردوغان سوى السيطرة على النفط الليبي، ومقدرات وثروات الشعب الليبى.
تلك المؤامرة مستمرة منذ ثمانينيات القرن الماضي، حتى إن المجتمع الدولى الذى أوقع ليبيا فى يد الإرهاب يقف الآن عاجزاً عن حماية ليبيا، كما يقف عاجزاً أمام الوصول إلى حل فى ظل تعقيد الموقف على الأرض وتصاعد المواجهات العسكرية.
وهنا تأتى أهمية زيارة المستشار عقيلة صالح للقاهرة التى تأتى فى إطار الجهود التى تبذلها القاهرة لدعم الحل السياسى فى ليبيا ووقف التدخلات الخارجية، خاصة أن «صالح» سيبحث مع المسئولين المصريين مبادرته الأخيرة التى طرحها للحل ويطلعهم على خطورة التدخل العسكرى التركى السافر فى ليبيا، وتأكيده على أهمية وجود موقف عربى موحد لتلجيم أنقرة التى تدعم الميليشيات والإرهابيين بالمال والسلاح، كما سيطالب بسحب الاعتراف الدولى بالمجلس الرئاسى برئاسة فايز السرّاج وإعادة تشكيله، وبالضرورة إعادة تشكيل حكومة وطنية يمارس عليها المجلس عمله من مدينة ليبية حتى تطهير العاصمة طرابلس، فالنجاح فى إعادة تشكيل المجلس الرئاسى وتشكيل حكومة وطنية، سيمكن من الميزانيات للصرف على احتياجات المواطنين وتيسير سبل الحياة الكريمة ودعم جهود وتطوير المؤسسة العسكرية للحفاظ على سيادة الدولة، حتى تطهير العاصمة وتأمينها من الجماعات الإرهابية وكذلك التوزيع العادل لإرادات النفط والغاز.
مصر تستطيع بالتنسيق مع شركائها الدوليين بلورة رؤية مشتركة لحل النزاع المعقد فى ليبيا، فلو حدث وأصبحت ليبيا صومالا جديدة على الحدود المصرية الغربية، فالمتضرر الأساسى هو مصر وأمنها القومى وهو ما لا تسمح به القاهرة مهما كانت الظروف، والمؤكد هنا أن القاهرة لن تترك ليبيا فريسة لتركيا ولن تسمح بأن تصبح ولاية عثمانية.