الفن مرآة الشعوب، وهو أيضا صانع نهضتها وحضارتها، ولقد سلطت الدراما الضوء عبر سنين طويلة على قضايا عربية أو محلية أساسية تتعلق بالمجتمع، سواء أكانت اجتماعية تخص البلد المنتج لتلك الدراما، أو سياسية تتعلق بالهم العام والمقاومة أو رفض التطبيع مع الكيان الصهيوني، ومعروف على صعيد الدراما العربية أن الدراما التليفزيونية والسينما المصرية تناولت قضايا سياسية مهمة، وقدمت مسلسلات وأفلاما كانت علامة فارقة في تاريخ السينما والتلفزيون، لعل أبرزها وأهمها "رأفت الهجان، دموع في عيون وقحة، الحفار، ليالي الحلمية، أرابيسك، الشهد والدموع، نصف ربيع الآخر، الرجل والحصان، أبو العلا البشري، الغربة، القاهرة والناس، الراية البيضا، أبنائي الأعزاء شكرا، زينب والعرش، ليلة القبض على فاطمة"، وأفلام "ناجي العلي والطريق إلى إيلات وإعدام ميت، البرئ، أرض الخوف، سواق الأتوبيس، الكرنك، شيئ من الخوف، أغنية على الممر، ضد الحكومة، ناصر 56، أيام السادات، الممر"، وغيرهما الكثير الكثير.
وعلى صعيد الدراما السورية، نجح المبدعون السوريون في تسطير مسلسلات وأفلام ومسرحيات حفرت في الذاكرة وما تزال، فمن منا ينسى "ضيعة تشرين، غربة، كاسك يا وطن، شقائق النعمان، كمسرحيات، وعلى صعيد الدراما قدم السوريون مسلسلات رسخت وأسست لرؤية سياسية واضحة، ومنها "إخوة التراب، نهاية رجل شجاع، عائد الى حيفا، الخربة، خان الحرير، الثرايا، الفصول الأربعة، الانتظار، غزلان في غابة الذئاب، جلسات نسائية، شوق، الولادة من الخاصرة، في انتظار الياسمين"، وعشرات المسلسلات التاريخية "ربيع قرطبة، ملوك الطوائف، صقر قريش، الحجاج، هارون الرشيد"، والفانتازيا "الجوارح الفوارس، الكواسر"، ومسلسلات البيئة الشامية التي تعكس روعة الزمان والمكان، وغيرها من تلك التي عالجت قضايا مجتمعية وسياسية بشكل راق وجهد واضح.
وسيظل راسخا في الذاكرة الحية مسلسل "التغريبة الفلسطينية" التي قدم رؤية درامية للقضية الفلسطينية بشكل سلس، وتناول المسلسل كاتبا وسيناريو وممثلين القضية في الكثير من أبعادها، إضافة الى مسلسل "الاجتياح" الذي تناول قصة حصار "مخيم جنين" من قبل العصابات الصهيونية، وفي شهر رمضان 2020 الذي غادرنا منذ أسبوعين، قدمت لنا الدراما السورية واحدة من روائعها النفيسة مسلسل "حارس القدس" والذي أشرفت وزارة الإعلام على إنتاجه، وهو يتحدث عن سيرة حياة المطران المناضل "كابوتشي"، باعتباره شكل حالة نضالية في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، والمطران كابوتشي لمن لا يعرفه من القراء المصريين، هو رجل دين مسيحي سوري، ولد في حلب وأصبح مطراناً لكنيسة الروم الكاثوليك في القدس، وسجل مواقف وطنية ومقاومة ورفض للاحتلال الصهيوني لفلسطين، وعمل على دعم المقاومة، ما كان له أثر سلبي على حياته حيث اعتقلته سلطات الاحتلال، أثناء محاولته إيصال أسلحة للمقاومة، وحكمت عليه محكمة عسكرية بالسجن 12 عاماً، أفرج عنه بعد 4 سنوات، وأبعد عن فلسطين، وأمضى حياته بعد ذلك في المنفى في روما حتى وفاته.
المسلسل من تأليف "حسن.م.يوسف"، وإخراج باسل الخطيب، وبطولة الفنان السوري الكبير رشيد عساف، صباح وسامية جرائري، أمل عرفة، سليم صبري، إيهاب شعبان، آمال سعد الدين، يحيى بيازي، وغيرهم، وجميعهم أجادوا في تقديم أدوار كتبت بحروف في سجل حياتهم الفنية، جراء تلك الروعة والإبداع التي ظهروا عليه خلال 30 حلقة كانت بمثابة ملحمة وطنية تحسب للدراما السورية في ظل كبوتها الحالية في ظل أزمة كورونا، ملحمة ملهمة في التاريخ الفلسطيني بصفة خاصة والعربي بصفة عامة من خلال عرض لحياة المطران المقاوم والفدائي الذي تجلت نوازعه القومية بوضوح وجلاء، فكان أحد أبرز رجال الدين الذي رفضوا حضور الاحتفالات والاستقبالات الرسمية التي كان ينظمها الكيان الصهيوني، وفي يوم وفاة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر توجه إلى جميع الأساقفة في القدس طالباً منهم رفع الأعلام السود فوق مقارهم، وقرع الأجراس أثناء جنازته.
لقد نجح المسلسل في بث رسائل مهمة بدءا من فاتحة المسلسل في تتر البداية، عبر قصيدة اعتراف كتبها الشاعر يوسف الخطيب، بكلمات نارية من شاعر ثائر موجهة الى "حارس القدس" أو "أمير الكنيسة العربية" كما يقول صاحب القصيدة، والكلمات التي تقول:
أبت أظن غسول هذي الأرض من دمنا
وأن يدا تعتق للصباح صفاء أدمعنا
وأن غدا سيولد من مخاض غد
سيرحل حزن هذا الكون في حنايا أضلعنا
أبت أُصرّ إليك وجهك رجع صوتك فاحتفظ بالسر
عن غير الصباح وعن غير اجنحة الرياح
وغير حنجرة الصدى
أبت سوف يجيء وعد غد يكون أغانيا ومغانيا
الكلمات كانت بصوت الفنانة "ميادة بسيليس" التي عرفها الجمهور العربي بأغانيها الثورية المنحازة للثورات، وكأن صناع المسلسل يريدون التأكيد على أن المقاومة في فلسطين مستمرة وروح الحرية تسكن كل عربي يرى أن القضية الفلسطينية قضيته الرئيسية، في المسلسل يحضر الشعر بكثافة فالمطران يقرئ لنزار قباني ولبدر شاكر السياب، يحفظ القصائد التي تتغنى بالأرض والوطن.
وعلى لسان المطران "كابوتشي" عاشق الشعر، محب للكلمة الحلوة والكتابات الجميلة، تأتي رسائل بليغة في معانيها ودلالاتها، سواء كان ذلك في أثناء محاكمته أمام محكمة إسرائيلية متطرفة، أو في أثناء لقاءته المتعددة مع أبناء الجالية السورية واللبنانية في منفاه، ولعل أبرزها "القدس ليست آثاراً أو حجارة. ومن دون أهلها، لا تبقى القدس قدساً.. القدس بناسها مسلمين ومسيحيين"، ولعل الكلمة التي ألقاها في "كركاس" بفنزويلا، في أثناء نفيه مرة ثانية إلى أقصى الدنيا، هى الأكثر تأثيرا حين قال "أنا عربي بمشيئة الله ومحبته، قوميتي هى الأساس لمسحة المسيحية، مسيحيتي واهية عقيمة مالم أكن عربيا خالصا وحتى النهاية، وأضاف: أنا لا أرى في القضية الفلسطينية أي وجه سياسي .. قضية فلسطين قضية إنسانية .. قضية حق وعدالة، وإذا كان هناك من إنسان يقدم نفسه في سبيل هذه القضية فهو أنا ، لأني مطران القدس أؤمن بعروبتها، وبأنها مهد المسيحية، وأرفض تهويدها كما وأقدم نفسي في سبيلها.
ومن المواقف المشهودة للمطران الفدائي البطل كما صورها المسلسل، إنه في مايو 2010 كان "كابوتشي" على متن أحد سفن الإغاثة المشكلة لأسطول الحرية التي كانت تحمل الأمتعة والغذاء لأهالي غزة المحاصرين على يد السلطات الصهيونية، وتم مصادرة كل ما تحمله السفينة من مؤن وأدوية، وهو ما يشير في دلالة واضحة إلى أن هذا المشهد جاء في في توقيت مهم ومفصلي من عمر الصراع، وفي ظل مشاريع "تصفية" القضية التي تحاصرها سكاكين الذبح اليومي في الأرض المغتصبة والمروية حبا بدماء شهدائها، فلسطين كاسرة كل الحدود الجغرافية حاضنة الديانات المتجاورة وباعثة السلام في انفس عشاقها، إنما هو بيان مقاومة يأخذ من القدس وأهلها صورة المواجهة، التي تشكل مدخلاً للثبات ومقاومة الأسرلة والتهويد والتهجير، وبهذا يدق المسلسل جرس إنذار جديد إلى ضرورة الانتباه إلى القضية المركزية للعرب.
وهناك دلالات كثيرة لازمت المطران "كابوتشي" تشير إلى إخلاصه وتفانية للقضية الفلسطينية ومنها أنه لم يفارقه مفتاح بيت "أم عطا" في القدس والسكين "الأمانة" التي انتظر طويلاً كي يعيدها إلى الشاب الفلسطيني - الدلالة هنا رمزية - الذي اعتقلته القوات البريطانية إبان انتدابها" ليؤكد "حارس القدس" على أنه ليس مجرد عمل درامي يسلط الضوء على حياة المطران المقاوم "إيلاريون كابوتشي"، بل يعتبر وبحق قراءة وطنية وفكرية وثقافية وإنسانية لرؤيته، نعم إنه قراءة تبحث في أعماق الماضي، وتستحضر الواقع، وتدحض كل مقولات "التعايش" مع المحتل الذي سلب الأرض وزيّف التاريخ، وقدمه صناعه في رؤية تلفزيونية متكاملة، فيها الدهشة البصرية التي امتلكها المخرج باسل الخطيب طوال الوقت.
ومن جانبه فقد عبر الفنان "رشيد عساف" عن شخصية "كابوتشي" ببراعة إتقان اللغة العربيّة لفظاً ونحواً وصرفاً وسلاسَة، وفي فن تقمص الشخصية المطلوب تمثيلها على نحو إبداعي، بعد لبس جلدها والظهور في صفاتها بقدر المستطاع وتبعا لما رسمته من معالم الشخصية، وهو أداء ربما كان مقيدا بأصل أو بنص مكتوب، لكنه أظهر فيه أن الممثل إنسان إلى أسمى الدرجات، بشوش يشع طاقة إيجابية جبارة، صوته يجبرك على أن تصغى إليه، عظيم المهابة، قادر على اجتذاب الأنظار، فهو ذلك الرجل الذي أوتى طبيعة خصبة تختزن كل شيء وعقلا قويا يسيطر على نفسه وأطراف جسده، بحيث يتوافر فيه الإحساس وقوة التركيز للأفكار وقوة التذكر للحركة الجسمانية، وقد كان دوما له المقدرة على إيجاد العلاقات الذهنية ومنطقية الإحساس والقدرة على التحليل النفسي لشخصية المطران المتعددة الأوجه، ولعله يبدو ملحوظا أنه انحاز إلى الجانب الإنساني الشفاف لرجل دين دخل لعبة السياسة رغما عنه، لكنه غلب الجانب الروحي، بلغة جسد محسوبة بدقة متناهية، ومن ثم استطاع أن ينفذ إلى بر الأمان في كل مرة كدنا ننزلق معها إلى هاوية حتمية بفعل تصرفات الصهاينة.
وعلى ذات درب الأداء الجيد برعت صباح جزائري في دور "منتهى" التي رافقت المطران طوال أكثر 30 عاما في منفاه، وهى التي عاشت في مجتمع الدور وبإحساس صادق الأمر الذي مكنها من الوصول إلى أكبر درجة من الإتقان، وكذلك الحال مع شقيقتها "سامية جزائري" التي لعبت دور الأم من خلال التعمق في كل لحظة من اللحظات الحرجة في حياتها والإلمام بكل الأمور الواجبة المكملة للشخصية، وشيئا من الاتقان نلحظه أيضا في أداء الرائعة "أمل عرفة" في حنينها الجارف إلى حلب وشوراعها العتيقة رغم ما آلت إليه بفعل الأيدي الإرهابية، فأمل من بين القلة من الفنانين الذين لا يمكنهم فصل وسائل التعبير لديهم عن أنفسهم، لأنهم يبدعون باستخدام أجسادهم وأصواتهم وميزاتهم النفسية والعقلية؛ أي أن إبداعهم لا ينفصل عن شخصياتهم، تماما كما فعلت في "حارس القدس".
ولا يغيب عني ذكر آخرين ممن أبدعوا في لوحة "حارس القدس" مثل القدير "سليم صبري"، الذي تمسك بوجوده في حلب رغم ماوقع فيها من أحداث عصفت بالإنسان والمكان، فقد ظل صامدا ومؤكدا على أن التمثيل ليس مجرد الوقوف أو التحرك فوق منصة مرتفعة، ونطق كلمات الدور بصوت جهوري، مرتعش، بل هو حالة وجودية متميزة تثير في ذاتها مجموعة من الازدواجيات المعقدة التي تجعل من فن الممثل أكثر موضوعات الفن الدرامي صعوبة، وهو ما ميز أيضا كل من "إيهاب شعبان" في لعب دور"المطران كابوتشي" شابا، و"يحيى بيازي" في دور "سرحان" المصور الفوتوغرافي المناضل، فقد برع الاثنان في تجسيد وتفسير الشخصية عن طريق التعبير القولي ، والجسمي ، والشعوري سواء في تأدية الطقوس الدينية، أو التعبير عن ذات الشخصية بالايماء، ثم بالحوار الدرامي والحركي.
ويبدو ملحوظا لي أيضا ذلك الاتقان في مفاصل العمل الفنية، وهو ما أعطى قيمة مضافة لـ "حارس القدس" من الموسيقى التصويرية وأغنية التتر والأزياء والإكسسوار والديكور والتصوير والإضاءة، فضلا عن الكاتب "حسن م يوسف" والمخرج "باسل الخطيب" اللذين استطاعا توفير أسباب النجاح كلها واختزال معاناة الشعب الفلسطيني عبر شخصية "المطران "، مستحضرين أيام النكبة وانطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة عام 1965، وكشف ما يدور في سجون الاحتلال الإسرائيلي بالإضافة إلى التغلغل والتركيز العميق على الجانب الإنساني للمطران "كابوتشي" أكثر من اعتباره شخصية وطنية استثنائية بامتياز.