صدق الشاعر الحكيم حين وصف الناس فلخص حالهم فى كلمة موجزة قائلًا: «تَخالفَ الناس حتى لا اتفاق لهم»، ولم يزل ذلك شأنهم وتلك عادتهم يختلفون فيما بينهم تبعًا لاختلاف مشاربهم وأهوائهم، ويتناسب هذا الخلاف طرديًّا مع حجم المختلف عليه وتعدد وجهات النظر إليه. وقد اختلف الناس على ابن تيمية فى أثناء حياته، ثم استمر ذلك بعد مماته، فغالى فيه أنصاره وأتباعه حتى جعلوه معصومًا لا ينطق عن الهوى فأخذوا آراءه وفتاواه دون نظر أو تمحيص، فسقطوا فى الهاوية التى سقط فيها هو، كما قال صاحب كتاب «ابن تيمية فى الميزان»، أما مخالفوه وناقدوه فقد رموه بالجهل والفسوق والزندقة، فحرموا أنفسهم من بعض ثمرة اجتهاده.
فبينما يصفه الحافظ ابن عبدالهادى بأنه الشيخ الإمام الربانى إمام الأئمة ومفتى الأمة، يحذِّر الإمام العز بن جماعة منه فيقول: «إنه عبد أضله الله وخذله». بل إن ابن تيمية لغرابة أطواره وتعدد أحواله واختلاف آثاره حد التناقض، اختلف فيه رأى تلاميذه، بل رأى الواحد منهم، فالذهبى الذى وصفه بحق أنه من الأذكياء المعدودين، عاد فأفحش فيه بحق كذلك، حين قال عنه: وقد تعبت فى وزنه وفتشته ... فما وجدت قد أخره بين أهل مصر والشام ومقتته نفوسهم وازدروا به وكذبوه وكفروه إلا الكبر والعجب، وفرط الغرام فى رياسة المشيخة، والازدراء بالكبار، فانظر كيف وبال الدعاوى ومحبة الظهور!
إن النبى صلى الله عليه وسلم مدح بديهة هذه الأمة، حين قال: «لا تجتمع أمتى على ضلالة»، والميزان القريب الذى يمكن به تقدير عمل من الأعمال واختبار حسنه من قبحه، هو اجتماع بديهة المسلمين عليه واستحسانهم له، ومن ضلال الرجل أن يتهم بديهة الأمة فى أمر اتفقت عليه، فيعكس على الناس استحسانهم، ولعل أشد ما أصاب المسلمين من ابن تيمية قديمًا أنه أصابهم فيما يحبونه وتتعلق به أفئدتهم وتتفق بديهتهم عليه، فحرَّج على الناس فى فتاواه زيارة قبر النبى، وعده من الأعمال الشركية، ولكن حضرة النبى لها فى القلوب حضور يعرفه أهل العرفان، وهذا وصف لا يقول به صاحب ذوق! أليس هو القائل فى على كرم الله وجهه: إنه كان مخذولًا حيثما توجه، وإنه قاتلَ للرئاسة لا للديانة. فهل هذا يليق به إلا إنكار الذهبى عليه: «إلى كم ترى القذاة فى عين أخيك وتنسى الجذع فى عينك؟» ولأجل هذه الآراء الخارجة عن بديهة الناس واجتماعهم؛ امتُحن ابن تيمية وسجن بفتوى علماء المذاهب الأربعة وظل فى محبسه حتى مات، بعد أن تنكر له جماعة من تلاميذه كالذهبى وناظره بعضهم، وتبرأ بعضهم من أقواله فى آخر عمره كابن رجب الحنبلى.
يقول الذهبى (كما فى الدرر الكامنة لابن حجر): «ومن خالطه وعرفه قد ينسبنى إلى التقصير فيه، ومن نابذه وخالفه قد ينسبنى إلى التغالى فيه ... وأنا لا أعتقد فيه عصمة، بل أنا مخالف له فى مسائل أصلية وفرعية».
ولعل مفتاح شخصية ابن تيمية الذى يفسر هذا التناقض، ما وصفه به الدكتور على جمعة فقال: «إن ابن تيمية كان عالما واسع الاطلاع، لكن لم يكن له شيخ معتمد، كان حاد الذكاء وهى صفة إيجابية، حاد المزاج وهذه صفة سلبية، وكان متفرغا للعلم ما جعله يترك إنتاجا وفيرا، وكثير الأخطاء أيضًا خاصة فى مجال العقيدة».
ومن أخطائه فى مسائل العقيدة التى نفرت منه علماء الأمة ربطه التكفير بفروع فقهية ليست من أصول الاعتقاد، فقد ذيل مئات الفتاوى التى أفتى بها قائلا: «يستتاب أو يقتل». وهل كان فى عصره أجرأ على رمى الناس بالكفر منه، وهو القائل: لا يجوز تكفير أحد من أهل الملة، أو لا يجترئ على تكفير الناس إلا جاهل.
ثم انتقلت عدوى تكفير المسلمين من ابن تيمية إلى هذه الفرق التى صدعت جمعهم وشتت شملهم بتأثير آرائه وفتاواه التى تبدو متناقضة حتى يستطيع كل فريق أن يأخذ منها ما يؤيد هواه ومذهبه.
وقد أماتت بديهة المسلمين السليمة وفطرتهم السوية فتاوى ابن تيمية فى العقائد خلال العصور اللاحقة له، حتى نبتت نابتة الوهابية فأحيت ما مات من بدعة تكفير الناس، ونفخت فى نار الفتنة بين أهل القبلة، ونقلت مسائل الفروع إلى العقيدة، وعادت بالنكير على ما استحسنه المسلمون ببديهتهم، حتى سقطوا فى الهاوية التى سقط فيها ابن تيمية. لقد كان الشيخ كثير الجدال حاد الطباع مندفعًا، لا إنكار لكثرة علمه وتوسع محفوظه إنما الإنكار والنكير على حركة عقله فى هذا العلم، كيف استنبط واستدل وأفتى، فضيق ما كان متسعًا، وشق ما كان ملتئمًا، وبعث الفتنة وكانت نائمة، فجوزى من جنس عمله وذاق ضيق السجن مرارًا، وإنما كان ذلك كما يحكى تلميذه الصفدى لأن «عقله ناقص يورطه فى المهالك ويوقعه فى المضايق».