«وعندما استيقظ وخرج من غرفته تحت الكوبرى شاهد أهرامات الزبالة ترتص فى صف واحد بأناقة واتساق، وطيور عديدة تحلق فوقها وتحط عليها.
وقال فى نفسه: هذا حقا هرم ملون صالح للعيش فيه»، ربما كانت هذه الجملة من أكثر الأشياء التى استوقفتنى فى رواية «عطارد» للروائى محمد ربيع، لأنها جملة كاشفة بامتياز عن العالم الذى قصدته الرواية.
إن الأثر الأكبر والإيحاء المسيطر الذى تركته الرواية على كثير من القراء أن «عطارد» نبوءة ستتحقق قريبا، خاصة أن الأماكن معروفة ومتاحة، فهو لم يتخيل مدينة سحرية طائرة فى الفضاء أو مدفونة تحت الأرض، كما أن كثيرا من الأحداث لها أصل عرفه الناس، فقط الكاتب مد خطًا مستقبليًا لهذه الأحداث، وأدرك تماما رغبة الناس فى الفناء وتعطل قدرتهم على الانتماء، لكن لنا أن نقول إن محمد ربيع لم يكتب روايته على طريقة روايات الخيال العلمى ولا سلسلة ملف المستقبل ولا الأفلام الأمريكية، فقد كان تركيزه الأكبر على الروح المعذبة التى ستتسع دائرة جحيمها الذى تعيش فيه الآن.
لقد أدرك محمد ربيع، فى روايته التى وصلت للقائمة القصيرة لجائزة البوكر هذا العام، والتى حصل عليها الكاتب الفلسطينى ربعى المدهون، ما الذى تحتاجه هذه الرواية لتصبح ما هى عليه الآن، وبالطبع فكر فيها مرات كثيرة قبل أن يبدأ فى كتابتها، لأن لك أن تتخيل دلالة «الجحيم» التى سعى إليها، حيث «لا حب ولا كراهية ولا انتماء، ولا تعاطف، والناس فى حالة من فقدان الوعى الدائم»، وقد فتحت الرواية الباب لتتسع الرؤية ونرى العالم على حقيقته، ونرى واقعنا كما ينبغى لنا أن نراه «ضائعا ومعذبا».
ومحمد ربيع فى روايته استخدم لغة «حادة» بعض الشىء، فلا وقت للجماليات الشكلية، فالسنوات التى نعيشها قاسية جدا ولن تجملها صورة بيانية فى فقرة من رواية، فالأمر أكبر من ذلك، الناس فى الرواية يريدون أن يموتوا بأى طريقة، لذا هم لا يريدون لغة عاطفية لكنهم يحتاجون ألفاظا بقسوة الرصاص وألم الماسورة الحديدة، وقد فعل محمد ربيع ذلك.
إنه الجحيم نسير فيه دون أن نبصره تماما، ودون أن نلحظ وقع أقدامنا، فقط بعض اليقظة تصيب أحمد عطارد أحيانا، فيتعجب من انتشار القبح بهذه الطريقة فى الشوارع، ويستغرب من التدهور الإنسانى الذى وصل لهذه الدرجة من الضياع، لكنه فى النهاية يعرف أن دائرة الجحيم التى سقطنا فيها لن تنته أبدا بل ستزداد اتساعا.