فى محاولة للبحث عن مخرج من عنق الزجاجة، أكد صديقى «شوقى» أن الزجاجة ممكن تكون كلها عنق «وإحنا مش واخدين بالنا»، أو بمعنى أصح، نحن فى زمن «السحاحة»، فتكون قوة السحب هى حاصل جمع الزنق فى ضرب الضغط بالشفط، وللأسف ستكون النتائج غير صحيحة، بسبب اختلاط المادة الفعالة باللعاب، وأهداف الثورة بأكاذيب الانقلاب. وعن نفسى، أتصور أن من الطبيعى أن نخرج من أزمة لأزمة طالما نحن «محلك سر»، والفيلسوف قال قديمًا إن أفضل طريقة لتحقيق أحلامك هو أن تستيقظ، والواضح أننا لم نستيقظ بعد، لذلك امتلأت عقولنا بالأحلام المستحيلة أو بالكوابيس المخيفة. فما بين متفاءل جدًا إلى حد البله وإغفال الحقائق، إلى متشائم جدًا إلى حد الهلع وتشويه الواقع، وبين النقيضين تقع الجزيرتان وآلاف المشاكل الخلافية شبه اليومية، فلا اتفقنا على التنمية ولا تعاونا على تطوير، وكل ما نسمعه الآن ضجيج الشتائم والتكسير، فهذا خائن وهذا عميل وهذا باع وهذا بلا ضمير، وبطبيعة الحال يظل الاقتصاد هو الخاسر العظيم، ومحنة الجنيه كلنا مسؤولون عنها، خاصة بعد أن تحول نصف الشعب إلى تجار عملة، والنصف الثانى «مستنى الفرصة»، ونسى الناس الصناعة والزراعة والتصدير، وانحصرت افكارهم فى الفهلوة والفساد والتهليب، لذا فلا فائدة من زيارة كل ملوك ورؤساء العالم إذا لم ترجع لعقول الناس قيم العمل والضمير والمسؤولية.
ويقول «مختار»، صديقى المغترب فى فرنسا، إن الإعلام الفرنسى لخص مشكلة الاستثمار فى مصر فى عدة عناصر، أولها انخفاض مستوى العمالة رغم توافرها ورخص أسعارها، وثانيها عدم وجود قوانين واضحة وداعمة للاستثمار، وثالثها فى المرافق، ورابعها أن القدرات السوقية للمصريين الآن لا تتعدى شراء السلع الغذائية، لذلك فسمعة مصر فى الاستثمار تشبه سمعة الأعمى فى اختراق البحار.. وإذا كان على الناس أن يفعلوا الكثير لتعديل سلوكياتهم العملية، أو قدراتهم المهارية لتتناسب مع سوق العمل، فإنه على الدولة أن تكف عن الكلام، وتبدأ فى وضع استراتيجية حقيقية وفعالة لتشجيع الاستثمار، فنحن نقابل المستثمرين بالطبل والصاجات، ونودعهم بعد لحظات بالندب والصوات، والدول التى اعتادت أن تساعدنا بالمنح والقروض أوشكت على الانقراض، ولا بديل عن العمل لتوفير النفقات واحتياجات البلاد.. وإذا كنا نجحنا فى توفير الدعم التموينى، وأكياس الفسيخ والخضار للملايين من المحتاجين، فلابد أن نوفر لهم عملًا أو أى فرص تشغيل، لأنه لا يمكن أن تستمر الدولة فى الاقتراض وتلقى المعونات بهدف إعالة الفقراء، فإذا لم تكن عندنا خطة سريعة لتشجيع الاستثمارات وتشغيل الناس، فلا تسألوا عن تنمية فى الاقتصاد، وانتظروا مصائب متعاقبة بسبب القروض والفوائد والديون.. والنهضة الاقتصادية مسؤولية الجميع، فالدولة عليها أن تضع السياسات، وتيسر إقامة المصانع والشركات، وتوفر المرافق والخدمات، وتقلل أعباء التصنيع والإنتاج، وتمنح الأراضى بشروط تنافسية، وتشجع المنافسة فى الإنتاج والوفرة فى المنتجات، وتحدد معايير للجودة والتسعير والأجور، وتضع خريطة استثمارية توضح فيها الفرص الإنتاجية والتصديرية للصناعات والزراعات والخدمات، وليس على الدولة أن تزرع وأن تصنع أو توزع الطعام على الناس مادامت وضعت هذه الأساسات، وعلى المجتمع أن يعيد النظر فى أسلوب حياته، فالقاهرة الساهرة سبب سهرها انتشار البطالة، والمقاهى المزدحمة لا تعنى قدرات شرائية، بقدر ما تدل على فراغ وكسل وقلة قيمة وانعدام للعمل.
علينا أن نعيد لحياتنا مفاهيم محاها الفساد والتكسب والتربح واستغلال الفرص.. أن نفهم قيمة العمل فى بناء الدولة، فالدول تقوم على مهارة عمالها وبراعة الحرفيين فيها، وإخلاص وتفانى المهنيين.. لم نسمع عن دولة قامت على أكتاف تجارة العملة والآثار وموزعى المخدرات والفهلوية والبلطجية، لذلك لا عجب أن نعيش طوال أعمارنا فى عنق الزجاجة، وألا تبدو لهذه الزنقة نهاية.