الذي يشاهد قناة dmc دراما هذه الأيام لابد أن يلمس تغيرا واضحا في خارطة مسلسلاتها وفقراتها المتنوعة في حنين جارف نحو الماضي الجميل من أعمالنا الخالدة، خاصة في أعقاب موسم رمضان 2020، الذي اتسم بزخم خاص على هذه القناة المتخصصة، ولعل الذي أعجبني أكثر هى تلك الفواصل بين الفقرات، والتي يقوم بالتعليق عليها رئيس القناة "يسري الفخراني"، في إشارة واضحة إلى وعيه وثقافته الرفيعة وتأكيده على كل ماهو حقيقيى ومؤثر في حياتنا على مستوى الكلمة والموسيقى والغناء والتمثيل والإخراج والمونتاج والتصوير، وغيرها من عناصر فنية تذكرنا بعظمة الماضي برونقه وبريقه الآخاذ ونجومه الذين أثروا وجداننا، وهو ماينم عن فراسة وذكاء وعزف شجي على أوتار مشاعرنا نحو كبار نجومنا القدامى في سبيل إعادة تشكيل وجدان المشاهد المصري من جديد.
فإذا تابعت على مدار اليوم فواصل dmc دراما، حتما ستصيبك متعة خاصة جراء لقطات بسيطة وقصيرة حول شخصية من الشخصيات مثل "وصفة سعاد"، حيث يقدم مشاهد مختلفة من أفلامها التي تحمل خفة دم ورشاقة وموهبة تمثيلية غنائية يندر أن تتكرر، أو جانبا من حياة "عبد الحليم" كرمز صارخ للرومانسية في فتوتها، وعظمة الست أم كلثوم في الذهاب إلى مواطن الشجن والسلطنة، والإبحار في رحلة مع الخيال في نهر موسيقار الأجيال الخالد عبد الوهاب، أو على جناح أغاني "نجاة - محمد رشدي - شادية - وردة - بليغ - محمد قنديل"، ناهيك عن عرض سير أبطال الأفلام "نجيب الريحاني - إسماعيل ياسين - فاتن حمامة - عمر الشريف - فؤاد المهندس - عبد المنعم مدبولي - فريد شوقي - عادل إمام - سيد زيان"، وغيرهم من نجوم أمتعونا ورسموا ملامح أحلامنا منذ زمن بعيد.
لاحظت أنا وغيري من متابعي dmc دراما، براعة "يسري الفخراني" في كتابة "سكريبت" بسيط جدا بصوته معبرا عن إحدى الشخصيات عبر مسافة زمنية قصيرة للغاية لاتتعدى الدقيقية الواحدة، لكنه من خلالها يستطيع التعبير في بلاغة آسرة عن الشخصية، سواء كانت شخصية أدبية أو فنية أثرت بالضرورة أو تركت أثرا مازال موجودا في حياتنا، وهى في ذات الوقت تمثل رمزا مصريا سطر اسمه في التاريخ بحروف من نور عبر إبداع لايفنى وتراث يمتد أثره على مر السنين والأيام، فها هو "أحمد رجب" إلى جانب "عبد الوهاب مطاوع، وأسامة أنور عكاشة مع داود عبد السيد وراجح داود ورشيدة عبد السلام وكمال الشيخ وأحمد توفيق"، وهنا سوف تلحظ خلطة عجيبة من المعاصرين والراحلين في توليفة تبدو غاية في الانسجام، ببساطة لأنها تعزف على أوتار إبداع مصري حقيقي ظل وسيظل مضيئا على أرض المحروسة.
وعلى مستوى الإبداع الدرامي لاحظت خارطة مشبعة بالشجن على جناح أعمال تنتمي إلى زمن الفتوة الدرامية من نوعية: "أبنائي الأعزاء - الراية البيضاء - ليالي الحلمية - لن أعيش في جلباب أبي"، وهى أربعة أعمال تم عرضها في أعقاب موسم رمضان كنوع من "النوستالجيا" التي تقوى على نفض غبار كل ما علق بالذائقة المصرية التواقة إلى الكوميديا والتراجيديا بجوهرهما الحقيقي، الذي يقوى على تهذيب الروح ويبعث على الطمأنية التي لم تقترب منها تلك الأعمال الكوميدية الشائهة من الأكشن والعنف التي طالت بعض الأعمال الدرامية الحالية، وربما نجحت شركات الإنتاج في الحد من سطوتها في هذا الموسم بقدر معقول يطمئن بأن المستقبل الدرامي المصري يتجه نحو بر الأمان، من خلال الأعمال الاجتماعية والوطنية التي يمكنها أن تحافظ على الهوية وتعكس واقعا حياتيا يبرز أحسن ما فينا من إيجابيات ويبعد عن تلك السلبيات التي اجتاحت حياة البسطاء من أبناء هذا الوطن.
وهنا لابد أن نشيد بالشركة "المتحدة للخدمات الإعلامية" برئاسة المنتج الكبير"تامر مرسي" في وضعها خطة طموح لإنقاذ الإعلام المصري بمختلف قنواته المرئية والمسموعة، ومنها بالطبع dmcفي شكلها الجديد، وأخص بالذكر قناة الدراما، كما يبدو مشهودا لها جهودها الحثيثة في تطوير المنتج الدرامي المصري بالشراكة مع الشركات الأخرى العاملة في الميدان، كما انعكس ذلك في خارطة الدراما الرمضانية هذا العام على مستوى التنوع في الموضوع الوطني والاجتماعي والرمانسي والكوميدي، وغيرها من أشكال درامية استطاعت أن تعيد هيبة الدراما المصرية من جديد خلال الموسمين الماضيين (2019- 2020)، كما أنها ساهمت في تطوير المنتج السينمائي المصري بشكل عصري يواكب كافة التطورات التكنولوجية الحديثة، ناهيك عن دورها الملاحظ في تطوير الإعلام الرسمي عبر رسالة جادة تؤكد على الهوية الوطنية وتمنح الثقة في القيادة السياسية، وتربط الشعب بقيادته على جناح الأغنية والفيلم الوثائقي الذي يبرز دور مصر الحضاري من خلال عرض الإنجازات التي تحققت خلال السنوات الست الماضية بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي.
ومن بين الأعمال الأربعة التي عرضت خلال الأسابيع الثلاثة الماضية على "dmc دراما"، ويجدر بي وبغيرى التوقف أمامها بقدر من التأمل والتحليل الفني مسلسل "أبنائي الأعزاء شكرا" وهو عمل درامي قام ببطولته الفنان القدير "عبد المنعم مدبولي" عام 1979، ومن منا لا يعرف صاحب الضحكة الجميلة "بابا عبده"، صاحب مدرسة خاصة في الفن الجميل وله طريقة خاصة تدخل القلب سواء في أدواره الكوميديا أو الحزينة، فقد لعب في هذا المسلسل دور أب لثلاثة أولاد وبنت، قام بتربيتهم ولم يتخلّى عنهم بعد وفاة الأم، بل عمل وعاش لأجلهم حتى أصبح كل منهم له قيمته الاجتماعية في التعليم والعمل، ثم تقاعد الأب من عمله بعد بلوغه سن المعاش، ليكتشف بعد ذلك تقلبات وتغيرات مربكة في حياة أبناءه الذين تهربوا من رعايته ورفضوا تدخله في شئون حياتهم، حتى وصل بهم الأمر بأن أحدهم أدخل الأب "مصحة نفسية" اعتقادا منه أنه بهذا الفعل يحافظ على مركزه العام أمام معارفه، إلى آخر قصة ذلك العمل الدرامي الذي مازال يحتفظ بمذاقه الخاص حين يُعرض حتى الآن على الشاشات المصرية والعربية.
لم تكن القصه من وحي خيال الكاتب "عصام الجمبلاطي"، بل إنها من الواقع حينها، إلا أنه في الألفية الثالثة التي نحياها حاليا يزداد الأمر وقوعا في المجتمعات العربية بأكملها ونرى هذا بوضوح من حولنا، ومن الممكن أن يكون في بيوتنا، فالحقيقة المرة تقول للأسف بأنه عادة ما يكون جزاء الوالدين من أبناءهم على جهودهم وفناء أعمارهم عليهم هو جزاء العقوق والتخلى والبعد عنهم في كبر أعمارهم، إلى أن يصل الأمر بأن يموت الأب أو الأم وحيدين في بيوتهم دون إحساس ومعرفة أولادهم بهذا، وليس ذلك فحسب - وهو ليس خيالياً - ولكنه واقعيا واضحا بأحداث وأشكال عدة، فترى أُما أو أبا كبيرا في السن على جانب أحد الطرقات بالشارع يعيش أو تعيش ويسكن لتسأله ما الذى أدى بك الى هنا؟، فيجيبك أو تجيبك بحسرة وأسى : أن ابنها طردها هو وزوجته من بيتها حتى يأخذ البيت ويعيش هو وأسرته فيه !
على أية حال فى عام 1979، استطاع المخرج محمد فاضل، تقديم عمل درامى يعكس مدى وفاء الأب لأسرته، وتأثير ذلك فى أولاده، فصورها ضمن مسلسل حمل اسم "أبنائى الأعزاء شكرًا"، ليحقق نجاحا غير مسبوق، ويظل عالقا بأذهان جمهوره الذى ما زال يشاهده ويتابع حلقاته عند عرضها باهتمام شديد رغم زخم الأعمال الدرامية التى يتم إنتاجها، أحداث المسلسل التي دارت في نهاية حقبة السبعينيات - آنذاك - فى إطار اجتماعي، شارك فى بطولته العديد من الفنانين على رأسهم الفنان القدير عبدالمنعم مدبولى الشهير بـ "بابا عبده"، والفنان يحيى الفخرانى والذى جسد دور "رأفت" الابن الأكبر لبابا عبده، وزيزى مصطفى التى جسدت دور "بدرية" زوجة رأفت التى كانت تشعر بضيق شديد عند ذهاب بابا عبده إلى منزلها للجلوس برفقة نجله، والطفلة مريم الحسينى التى جسدت دور "فاتن" بنت رأفت.
أما الفنان صلاح السعدنى فجسد دور "عاطف" الابن الأوسط لبابا عبده، وفاطمة مظهر جسدت دور "إيناس" زوجة عاطف، والطفل وليد يحيى جسد دور "عمرو" ابن عاطف، أما الفنان فاروق الفيشاوى فجسد دور "ماجد" الابن الأصغر لبابا عبده، وزوجته جسدتها الفنانة مشيرة إسماعيل فى دور "سوزي"، وجسدت الفنانة آثار الحكيم دور "عفاف" الابنة الصغرى لبابا عبده، التى ظلت متعلقة به طوال الوقت، والتى تزوجت من "محمود" نجل عمها الميكانيكى الذى جسده الفنان محمود الجندى، ولقد برعت الفنانة فردوس عبدالحميد في تجسيد دور "صفاء" التى كانت تعمل مع بابا عبده، وتعلقت به لدرجة كبيرة فكانت تحزن لحزنه وتفرح لفرحه، وتساعده فى تخطى كل مشاكله، وجسد الفنان رشوان توفيق دور "حمدى" زوج صفاء، كما جسد الفنان عثمان محمد على شخصية "طبيب" بابا عبده، كما ظهر الفنان عبدالله فرغلى بدور "محامى" بابا عبده، وتخللت شخصيته بعض الإفيهات الكوميدية الجميلة.
ومن المفارقات الغريبة أنه ظل العديد من الجمهور يتذكر المسلسل باسم مسلسل "بابا عبده"، حيث تقمص الفنان عبدالمنعم مدبولى تلك الشخصية ببراعة فائقة، وأصبحت عالقة فى أذهان الجمهور، ربما لأن شخصية "بابا عبده" كانت محور الأحداث، ومروه بالعديد من المحن والمشكلات، حيث يعانى بابا عبده دائما من إهمال أولاده له، حتى عندما يتعرض للمرض، لكن "صفاء" تقف بجانبه طوال الوقت، إلى أن يكتشف الأبناء أنهم ابتعدوا عن أبيهم كثيرا، وأنهم فى حاجة إليه دائما كما يحتاج هو إليهم من دافع معنوى وإنسانى بحت.
ويظل الأجمل في مسلسل "أبنائي الأعزاء شكر" الشهير بـ "بابا عبده"، هو نجاح المخرج محمد فاضل فى تقديم مسلسل يعيش مع المشاهدين عمرا طويلا، حتى صار من كنوز الدرامية المصرية؛ حيث صنع من خلاله حبكة درامية مترابطة بعيدا عن الإسفاف، وعالج واحدة من أهم القضايا التى ظلت تعانى قصورا فى معالجتها وهى قضية الترابط الأسرى، ومدى احتياج الأب لأبنائه مهما كبروا، وأيضا احتياج الأبناء الدائم إلى أبيهم، خصوصا إذا كان يتمتع بقدر كبير من الحكمة والإنسانية والحنان، وقد ساعد "فاضل" في نجاح تلك الحبكة الدرامية اعتماده على الموسيقى التصويرية للموسيقار الكبير "عمار الشريعى" التي لعب دورا كبيرا فى ذلك؛ حيث وضع ولحن موسيقى العمل، كما غنى الفنان عبدالمنعم مدبولى عدة أغنيات ضمن حلقات المسلسل؛ حيث إنه حظى بخامة صوتية دافئة وأغانيه ظلت عالقة بذهن جمهوره، ومنها أغنية "علمتني يازمان" التي تقول كلماتها:
علمتني يازمان .. أبكي وأنا باضحك
وأنا اللي ياما زمان ضحكت وأنا مسرور
آه يازمان مهما كان برضك أنا مسامحك
وبكره يجي زمن تاني يرد الروح
فترد عليه فردوس عبد الحميد:
انته الزمان واللي كان واللي جرى لينا
خلينا عايشين في بكره وبعده خلينا
نداوي بعضينا ونغني ليالينا
منورة قبل ما العمر اللي لينا يروح
تحية تقدير واحترام أولا لـ "المتحدة للخدمات الإعلامية" في تنمية وعى ووجدان المصريين إعلاميا وفنيا، وللمبدع "يسري الفخراني"، الذي أعاد لنا روح الزمن الجميل في صياغة جديدة تستطيع أن تجلب المتعة الحقيقية في زمن الاغتراب الفني الحالي الذي نعيشه بشق الأنفس.