هناك قناعة راسخة لدى بعض النخب الدينية والجمهور بأن نقد التراث الديني يعتبر خيانة للتراث ذاته، وأن تلك القراءة النقدية صادرة عن تأويلات مثقفين ذوي ميول يسارية أو علمانية من جهة، أو أنها قراءات للمستشرقين ومن سار على نهجهم في النظر للتراث نظرة نصية لغوية تاريخية من جهة أخرى.
والغريب تكرار تلك الاتهامات مع بزوغ أي مشروع فكري تنويري لأحد العلماء أو مجموعة من الباحثين، لإعادة قراءة التراث الديني بما يتناسب مع مستجدات العصر وفقه الواقع والمقاصد الكلية.
يتجاهل هؤلاء الرافضين لنقد التراث أن واحدا من أهم الشيوخ الذين تأثرت بهم الحركات الإسلامية في العالم مثل الشيخ محمد الغزالي كان في طليعة من طالبوا بنقد التراث الديني واعتبار ذلك النقد ضرورة، بسبب انحراف المسلمين عن مبادئ الإسلام، فيشير في كتابه الدعوة الإسلامية في القرن الحالي إلى: "أنه يجب أن ينتعش بين المسلمين فن النقد الذاتي وهو فن يقوم على محاكمة الواقع الإسلامي إلى المثل المقررة في الإسلام ذاته، وبيان مسافة القرب والصواب والخطأ في هذا الواقع المضطرب".
إذا النقد الذاتي للتراث الديني ضرورة ولكن من له الحق في تلك القراءة النقدية وإعمال العقل، هل هم الشيوخ الذين تلقوا العلم من شرائط الكاسيت ومواقع الانترنت والتعليم بالمراسلة دون أن يكون لهم معلم أكاديمي أو أستاذ مخضرم يتابع ويوجه؟ أم الباحثين الذين لم يدرسوا العلوم الشرعية وأصول الفقه أو علم اللغة ولم يتعمقوا بشكل كاف في تلك العلوم، فقدموا قراءات نقدية سطحية تردد نفس الكلام القديم ولكن بأسلوب جديد مودرن وكول؟
إن القراءة القشرية لحديث النبي محمد (ص) عَن ابن عُمَر رَضِيَ اللَّه عنْهَما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أُمِرْتُ أَن أُقاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَن لا إِلهَ إِلاَّ اللَّه وأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، ويُقِيمُوا الصَّلاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ، فَإِذا فَعَلوا ذلكَ، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وأَمْوَالَهم إِلاَّ بحَقِّ الإِسلامِ، وحِسابُهُمْ عَلى اللَّهِ" مُتفقٌ عليه. هي أن نبي الإسلام أمر بقتال الناس غير المؤمنين أي من أصحاب الديانات الأخرى، لكن المتعمق في علمي أصول الفقه واللغة يدرك أن "الـ “قد لا تعني العموم أي عموم الناس بل ناس بعينهم هم مشركو مكة، الذين كانوا أشد عداوة للمسلمين في ذلك الوقت من عصور الغزوات والفتوحات. فلا يمكن لا عاقل أن يصدق أن النصوص القرآنية تنهى عن قتال أتباع الأديان الكتابية المسالمين الذين لم يبدأوا بالعدوان، ثم يأتي النبي ليأمر بقتالهم. "لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المقسطين". (الممتحنة:8)
إن هذا مثال واحد فقط من عشرات الأمثلة التي تحتاج إلى بيان وتوضيح وتأويل بروح عقلانية وثورية في آن واحد.
والنقد الذاتي أصبح يقال عنه مصطلح مهذب هو "مراجعة ومراجعات"، وبعضها نقد ذاتي على استحياء دون الاعتذار عن الممارسات السابقة لأفراد وتيارات والبعض الآخر نقد ذاتي كلي وعميق وبيان لأسباب الخطأ في الممارسة العملية بسبب البعد عن المنهج العلمي والحجج والأدلة القوية في تأويل الأحكام.
النقد الذاتي أكبر دفاع عن سماحة الإسلام والحضارة الإسلامية، والتعصب والتمسك بالقراءة الحرفية للتراث، وتجاهل الاجتهاد وإعمال العقل في قراءة النصوص الدينية، يضع المسلمين في دائرة اتهام بالتطرف والعنف مع كل حادثة تهز العالم من حوادث الإرهاب والعنصرية والتنمر والعنف الجنسي وغيرها.