كالعادة، خرج علينا مرتزقة الإعلام على الشاشات التى تُبث من قطر وتركيا، ليبرروا أفعال سلطانهم المزعوم، الواهم بأحلام عودة الخلافة، عبر تحويل المتاحف والكنائس إلى مساجد، وكأن الأرض ضاقت عليه بما رحبت لبناء مسجد فى بلد تحصل فيه العاهرات على رخص للعمل بمشروعية تامة من الحكومة، وهناك ما بين 15 لـ20 ألف منزل تدار للدعارة فى تركيا، وما يزيد على 300 ألف عاهرة مسجلات بشكل رسمى!
وتدر تجارة البغاء على تركيا سنويا ما بين 4 لـ6مليارات دولار، ما يجعلها الدولة رقم 10 فى الاستفادة من أموال العاهرات، كما توجد بشوارع تركيا فاترينات لعرض حريم الإخوان والخلافة.
يخرج هؤلاء الإعلاميون المرتزقة ليوجهوا كلامهم للمغيبين من أهلهم وعشيرتهم بأن الخليفة يحارب الاستعمار الروسى، وأنه صفع الرئيس الروسى فلاديمير بوتين بقرار تحويل كاتدرائية أو متحف «آيا صوفيا» إلى مسجد، وكأن الدين الإسلامى لن يكتمل إلا بتحويل المتحف إلى مسجد، أو أن دخول «آيا صوفيا» الإسلام هو الفتح المبين بالنسبة لهؤلاء المغيبين!!
بالطبع تجارة الدين تجعلنا لا نستغرب أى تصرف لـ«القردوغان»، مع أن هذا القرار سوف يدفع المسلمون ضريبته، كما دفع الإسلام هذه الضريبة من قبل، عندما قاموا بتشويهه بأفكارهم التكفيرية التى ترفضها الإنسانية، ويتمسك الرئيس التركى بحلمه لاستعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية البالية، سواء فى سياساته الداخلية أو التدخلات العسكرية الخارجية، التى عمقت من التوترات مع دول مختلفة حول العالم، بل وظّف القرار لمصالحه الشخصية وأهدافه السياسية ومحاولة استقطاب المحافظين والمتطرفين فى الداخل التركى للنجاة من السقوط فى الانتخابات المقبلة، وحتى لا تتكرر مأساة انتخابات إسطنبول التى هزت عرشه، وأفقدت حزبه السيطرة من جهة، وصرف انتباه الناخبين عن المشاكل الاقتصادية فى تركيا من جهة أخرى، والمضحك هو ما روّجه «القردوغان» نفسه أن بلاده يمكنها الآن تجاوز لعنة الله والأنبياء والملائكة بعد قرار أعلى محكمة إدارية فى تركيا بشأن البت فى وضعية صرح آيا صوفيا التاريخى، الذى يمثل هويتين دينيتين وتاريخا طويلا يمتد على مدار 1500 عام.
جاءت ردود الأفعال عبر العالم مستنكرة هذا القرار، إذ اعتبرت اليونان، التى ترتبط بروابط خاصة مع آيا صوفيا إذ كان أول كنيسة شيدها البيزنطيون فى القرن السادس، وكانوا يتوجون أباطرتهم فيها، القرار التركى بخصوص آيا صوفيا «استفزاز للعالم المتحضر الذى يعترف بالقيمة الفريدة والطبيعة المسكونية لهذا المعلم الأثرى»، وربما جاء هذا القرار من باب النكاية السياسية التى يجيدها النظام التركى، على الرغم من أن «آيا صوفيا» مدرج على قائمة التراث العالمى لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم «يونسكو»، ويعد واحداً من أهم الوجهات السياحية فى إسطنبول، إذ يزوره ملايين السياح سنويا.
وفى تقرير نشره معهد الشرق الأوسط، يتحدث الباحثان، مروة مزيد وجيك سوترياديس، عن الحركة العثمانية الجديدة فى تركيا التى تركِّز بشكل كبير على القومية والإسلام السياسى اللذين يقومان على إرث الإمبراطورية العثمانية، من خلال توسيع السلطة العسكرية والاقتصادية والسياسية. وبالنظر إلى سلوك تركيا فى المنطقة اليوم، نجد أنها تنفذ هذه الاستراتيجية العثمانية الجديدة فى الوقت الذى تتحرك فيه لتوسيع نفوذها فى دول مثل قطر والصومال وليبيا وسوريا.
اتباع تركيا لهذه الاستراتيجية تسبب فى إغضاب الولايات المتحدة، وأوروبا، وروسيا، ومصر، ودول مجلس التعاون الخليجى العربى. ومع كل عام يمر، تبتعد تركيا عن الدبلوماسية وتقترب أكثر نحو استخدام القوة لتحقيق أهدافها. ومن الأمثلة على ذلك الغزوات التركية فى البحر الأبيض المتوسط، وبدلًا من الدعوة إلى إجراء مفاوضات مع قبرص عند اكتشاف الغاز الطبيعى فى مياه البحر الأبيض المتوسط، تعزز بشكل استفزازى وجودها البحرى هناك.
إنها ببساطة حيلةٌ من «القردوغان» لتشتيت التدقيق الإعلامى فى القضية، من خلال مقارنة عدد المساجد فى أثينا بعدد الكنائس فى إسطنبول، ومن ثمّ، فإن السماح لأردوغان بتحويل آيا صوفيا إلى مسجد سيسعد بالتأكيد الجهاديين المتطرفين ويشجعهم على استهداف مواقع التراث غير الإسلامية الأخرى فى المنطقة.
داخلياً، انكشفت خطط «القردوغان» وكما قال كمال كيليجدار أوغلو، زعيم حزب الشعب الجمهورى أكبر أحزاب المعارضة فى تركيا: «آيا صوفيا هى بالفعل مكان للعبادة وهى معلم ثقافى عالمى، ويجب الاعتراف بذلك، والموضوع يتم تدويله فى السياسة المحلية من وقت لآخر، ولكننا لا نرغب فى استغلال الدين فى السياسة الداخلية. إنه يحاول الهروب من أزماته الداخلية بإثارة الجدل حول متحف آيا صوفيا، كلما تآكلت شعبيته واستشعر تحولات فى سلوك الناخب التركى قد تؤدى إلى دفعه وحزبه إلى الهامش.
نعم هذه طريقتهم، ومن غبائهم أن خططهم لا تتغير، فليس هناك أفضل من تيارات الإسلام السياسى باللعب على وتر الهوية الدينية والانتماء الحضارى، كلما ضاق هامش المناورة السياسية عليهم فى الداخل، فمثل هذه الأكلشيهات تساهم فى زيادة الشعبية الانتخابية، فهم يعرفون كيف يتاجرون بكلام الله فى الانتخابات، وهى ليست المرة الأولى التى يطرح فيها الرئيس التركى إعادة تحويل آيا صوفيا، إذ جرت العادة أن يظهر هذا المقترح عند اقتراب موعد الانتخابات ثم يختفى بعد انتهائه، فمثلاً قبل الانتخابات البلدية فى مارس 2019، طرح أردوغان تحويل المتحف إلى مسجد، حينها كانت استطلاعات الرأى ترجح خسارة العدالة والتنمية للبلديات الكبيرة، حيث مثّل هذا الطرح إحدى الأوراق السياسية لتعزيز شعبيته بين الإسلاميين والقوميين، وحتى مع أن هذه الورقة لم تأت أكلها حينها، إذ خسر أردوغان أكبر بلديات البلاد كإسطنبول وأنقرة وأزمير، التى تضم أكثر من ربع عدد سكان البلاد البالغ 82 مليون نسمة، عاد القردوغان التركى لتفعيلها مجدداً، وتقديمها على أنها القرار الأبرز فى عهدته الرئاسية الحالية، فى وقت تشير فيه أحد استطلاعات الرأى المحلية إلى تقليص المعارضة التركية للفجوة الانتخابية لمستوى ست نقاط مئوية، حيث فتح فوز المعارضة التركية بانتخابات بلدية إسطنبول، التى كان يسيطر عليها حزب العدالة والتنمية لأكثر من عقدين، الشهية لفوز المعارضة فى كل مكان، وترى المعارضة أنها أمام فرصة تاريخية لاستثمار تراجع شعبية الإسلاميين، استعداداً للمحطات الانتخابية المقبلة.
أصوات كثيرة تتعالى فى الداخل التركى ترى أن «القردوغان» يحاول تقديم شىء ما للناخبين قبل انتخابات حاسمة، مزمع إجراؤها سنة 2023، لكن الكثير يتحدثون عن تقديمها إلى سنة 2021 بسبب الأزمة الاقتصادية الخانقة التى تعصف بالبلاد، والتى ساهم فى تعميقها بسبب مغامراته الخارجية فى كل من سوريا وليبيا، ما جعل المواطن التركى يدفع ضريبة استعداء خليفتهم المزعوم للجميع.