في كتابه (العشوائيات : تاريخ من الظلم العالمي) لآلن ماين، يقول: تستدعي كلمة (مكان عشوائي - Slum) إلى الذهن معانٍ قوية عديدة، فعند ذكرها قد يتوارد إلى الذهن مساكن القرن التاسع عشر الرثّة، أو الفقر الديكنزي (تشارلز ديكنز)، أو ربما تستدعي للذهن صور فقراء اليوم الذين يعيشون في مدن الصفيح والعشش، ويقترح هذا الكتاب الجديد - الذي صدر قبل عامين تقريبا - أن نفكر في الأحياء العشوائية كظلم عالمي؛ ليس لوجود ظروف معيشية مزرية، ولكن بسبب كلمة (مكان عشوائي -Slum ) في حد ذاتها، ويعتقد (ماين) أن هذا المصطلح قد تم استخدامه كسلاح مُشهر في وجه الفقراء، ويجب ألا يتم استخدامه.
وترتيبا على كلام (ماين) يبدو لي من خلال قراءة متأنية للمشهد المصري الحالي أن الرئيس عبد الفتاح السيسي كان على قدر كبير من الوعي لكلمة (عشوائيات) وسبقت أفكاره أفكار(ألن ماين) بسنوات عندما شعر بالمسئولية تجاه الفقراء والبسطاء من بني وطنه، فقرر أن يجبر بخاطرهم في توفير عيش إنساني كريم وآمن، لذا قرر البدء في القضاء على ظاهرة العشوائيات قبل 6 سنوات من الآن، وتحديدا مع بداية توليه مسئولية قيادة مصر، حيث قام على الفور بالتخطيط للمشروعات القومية في مصر كتجربة كبرى وفريدة، وضعت نقطة النهاية فى نهج الحلول المؤقتة قصيرة المدى، لقد اختار "السيسي" الحل الاستراتيجى فى منهاج عمله واضعا حلول جذرية بعيدة المدى لمشاكل مصر فى كافة المجالات.
وعبر 6 سنوات من العمل الشاق والجهد المرير وسط عواصف قاسية من تحديات الإرهاب والظروف الاقتصادية الصعبة التي حاصرت مصر خلال تلك السنوات، على الرغم من كل ذلك تحققت فيها إنجازات غير مسبوقة، وتجربة تقاطعت معها الكثير من الصعوبات والتحديات، ومعركة تنمية فاصلة خاضها الرئيس السيسى ومن ورائه كتيبة وزراء كانوا معنيين بالتنمية، هى معركة زينها التجانس الواضح فى الأداء بين وزراء حكومة المهندس مصطفى مدبولي، حيث فتحت الحكومة الحالية قنوات تواصل حية مع طوائف الشعب المختلفة، من خلال شرح وتوضيح أبعاد وطبيعة أى من الأزمات التى تعوق التنمية، وفى نفس الوقت تبعث برسائل طمأنينة حقيقية من خلال برامج واضحة يشعر معها المواطن أن الغد أفضل بكثير من توقعاته.
وبفضل الله وتوفيقه انتهت مصر من نحو 14 ألفا و762 مشروعا قوميا عملاقا بتكلفة تقديرية تصل لحوالى 2207.3 مليار جنيه، فضلًا عن 4164 مشروعًا تحت التنفيذ بتكلفة تقديرية تبلغ 2569 مليار جنية، ولعلنا نلاحظ أن هنالك عمل يومى دؤوب على أرض الواقع انعكست ثمرته فى ضبط حركة السكان عبر الأرض، وتأسيس مجتمعات عمرانية جديدة منتجة ومستقرة فى صحراء مصر الشاسعة، وتبنى سياسات أصيلة للتضامن الاجتماعى والحد من الفقر، والتوسع فى إقامة منصات رياضية وثقافية وتعليمية وإبداعية فى كافة أرجاء الوطن، وهى منصات لازمت المجتمعات العمرانية الجديد في أثناء إنشائها، كي تستهدف بسطاء مصر من أبناء هذا الوطن.
بالأمس القريب - كما شهدنا بفخر - افتتح الرئيس السيسى مشروعات الإسكان المتوسط بمدينة المنيا الجديدة والشروق و6 أكتوبر والشيخ زايد وبرج العرب والسادات والعبور، ومشروع الأسمرات 3، بما ضمه من وحدات سكنية كاملة الخدمات والمرافق، بالإضافة إلى أكبر مجمع للخدمات قادر على تلبية احتياجات نحو 100 ألف نسمة يقطنون مشروع الأسمرات بمراحله الثلاث، وهذا الافتتاح كان شاهد عيان على نجاح مصر فى تحدى التنمية والبناء الاقتصادي وقهر العشوائيات، ذلك الحلم والهدف الذى بدأ يؤتى ثماره يوما بعد يوم ويتسع باتساع حجم التنمية المستدامة فى مصر، والتي تهدف إلى القضاء على العشوائيات غير الآمنة وتحويل المساكن الجديدة إلى مناطق حضارية.
المشروعات القومية التى تتعلق بالإسكان وغيرها من المرافق والخدمات، التي افتتحها الرئيس مؤخرا وزار بعضها على الطبيعة، تأتى فى إطار منظومة كبرى من المشروعات القومية، وجميعها يسير على أعلى درجة من الإنجاز والدقة، حيث تحظى بمتابعة مستمرة من الرئيس لما لها من بعد اقتصادى عظيم، فباتت برامج التنمية فى مصر نموذجا اقتصاديا مهما يستقطب المستثمرين والشركات العالمية، ويتجلى حصاد تلك المشروعات في النجاح الواضح فى عبور الفجوة بين طموحات الرئيس وواقع ما تقوم الدولة بتنفيذه، وتلحق الحكومة بأفكار وطموحات الرئيس الذى أدرك المخاطر المحدقة بالتنمية، ومن بينها العشوائيات والزيادة السكانية.
ربما يلحظ كثيرمن المصريين أن لدى الرئيس طموحات بدأت منذ توليه المسئولية، ومشروع الرئيس السيسى جاء بلا شك فى ظل أوضاع أكثر صعوبة حيث تسلم دولة منهكة اقتصاديا ومتقطعة الأوصال مع عالمها العربي والخارجي، ومثقلة بأزمات جسام تم ترحيلها عبر عقود ماضية جراء التقاعس وعدم إدراك المسئولية، وحالة اقتصادية متهالكة تحتاج إلى فيض من الاستثمارات الداخلية والخارجية التى تتطلب تأهيلًا وبنية أساسية وتمويلًا، بالإضافة إلى وضع سياسى مضطرب بفضل تداعيات فترة حكم الجماعة الإرهابية، إلى جانب تداعيات أخى تتمثل في عمليات تحديث مبتورة مست القشرة الخارجية فقط للمجتمع دون أن تمس الثقافة، فأهملت بناء الإنسان المواطن القادر على المشاركة فى تحقيق النمو الاقتصادى الهائل والمحافظة عليه.
ولهذا عكف الرئيس السيسى طوال كل تلك الفترة على دراسة ملفات عديدة ومفتوحة احتاجت بالضرورة إلى إجراءات عاجلة لمواجهتها، وذلك باتخاذ قرارات مدروسة بشأنها، فبعد أحداث 25 يناير شهدت مصر عدة أزمات اقتصادية طاحنة أدت إلى توقف العديد من القطاعات الحيوية مثل السياحة وغيرها من نشاطات حيوية كانت تلعب دورا محوريا في تسير عجلة الاقتصاد، ومعها أيضا فقدت البلاد موارد النقد الأجنبي الذي يعني توقف العديد من المصانع، وهو الأمر الذي دفع إلى توقف الصادرات واعتماد البلاد على الواردات بشكل أكبر، وهى أعباء زادت من الضغط على النقد الأجنبي.
لكن السيسي ركز - كما عشنا معه وشاهدنا على الطبيعة - منذ الوهلة الأولى اهتمامه بإعادة بناء البنية التحتية من الكهرباء والطرق والكبارى والموانئ والخدمات اللوجيستية، وكلها روافد تضخ في عجلة التنمية، وفي نفس الوقت كان حريصا على الانتصار لمحدودى الدخل والطبقة المتوسطة من أبناء مصر، وحثهم على النهوض ببيئة العمل الإدارية لكى تضع مصر قدميها على الطريق نحو التقدم الحاسم للمشروعات القومية الكبرى، وتعزيز التحول الرقمي، والقضاء على العشوائيات، وجميع الظواهر الأخرى التى تسئ لمصر، والتي كان يعايرنا البعض باعتبارها نتوءات تشوه الثوب المصري الأبيض.
وقد تجلى فكر السيسي أكثر ببعد نظره الثاقب في التركز على المشروعات ذات العائد بعيد المدى، والتى من شأنها أن تفتح المجال أمام فرص عمل للشباب الذي يشكل قطاعا كبيرا من المجتمع المصري، وشجع الأفكار الابتكارية، فكانت منظومة المشروعات العملاقة عماد الحاضر بعصريته وإرث الأبناء والأحفاد الحالمين بغد أكثر إشراقا، بما في ذلك من تحديث وتوسيع شبكة الطرق والكبارى واستحداث مسارات جديدة ستغير التواصل الجغرافي، بما أضافته من شرايين حياة هى عماد أى تنمية، وتجسد الواقع العملي والتفكير المستقبلي الجاد في حلم عاصمة إدارية جديدة تخفف العبء عن القاهرة وتدشين عصر المدن الذكية فى البلاد.
قطع الرئيس عبد الفتاح السيسي، عهدا على نفسه، بأن لا يترك منطقة عشوائية في مصر، حفاظا على كرمة وحقوق المواطن المصري، مؤكدا على أن الفساد والتخريب والعشوائيات في الدولة أخطر من الإرهاب، موجها بعدم الاكتفاء بإزالة مخالفات البناء فقط، بل تقديم المسؤول عن المبنى للمحاكمة، ولقد نجح السيسي نجاحا مبهرا في تحقيق النمو الاقتصادى الهائل والمحافظة عليه بفضل سياساته الحكيمة، وهو بذلك يستهدف أيضًا بناء مجتمع متكامل ومتوازن تسود فيه العدالة الاجتماعية، وروح المساواة وبناء نظام إدارى للدولة قادر على خدمة المواطن ومراعاة مصلحته، وبث قيم النزاهة والشفافية والعدل وكل القيم الحديثة التى تحترم الآخر وتتفاعل إيجابيًا معه وبناء مجتمع مدنى جديد.
الذين يعيشون في العشوائيات هم جزء أصيل من المعادلة التي كانت ولازالت تشغل تفكير الرئيس السيسي، وتغزي الفكرة التي يؤمن بها في أن أولئك الذين يقطنون العشوائيات ليسوا أفقر من أي شخص آخر فقط، ولكنهم أيضًا يتصفون بنوعية معينة من العقليات، ولا يتصفون بحسب مفهومه بأنهم عقيمين للغاية أو غير مؤهلين لتسلق السلم الاجتماعي، أو ليعيشوا حياة مرتبة، أو أن يحتفظوا بوظائف لائقة، لقد نمى وعيه منذ البداية إلى هناك فصلا تعسفيا (قاسيًا) لكثير من أولئك الذين يصارعون الفقر، وربما يطلق علماء النفس على هذه الحالة في الوقت الحالي (المأسسة - institutionalization)، وهي تعني ميل البشر إلى البقاء في حالات الاختلال الوظيفي التي خبروها جيداً، حتى أن هناك دراسات حديثة أشارت إلى أن الفقر في حد ذاته يمكن أن يتسبب في ضعف الإدراك، مما يسبب نوعًا من صناعة القرار يمكن إرجاعة في نفس الوقت إلى (عقلية العشوائيات).
هذا الكابوس المفزع ظل يطارد السيسي في نومه ويقظته بعد نظرة المجتمع القاسية إلى هؤلاء البشر من ساكني العشوائيات والحكم على أن أي منطقة عشوائية يجب تدميرها، وذلك لأن المنظر المؤذي للعشوائيات بالنسبة للناظر هو جزء محوري من الوجع الإنساني، لذا رأى الرئيس ضرورة الإلحاح في إزالة العشوائيات، خاصة أنه لم يعد يتوفر فيها عنصر الأمان، ومن بعض أهداف هذه الإزالات التخلص من الأشخاص غير المرغوب فيهم بنفس قدر الرغبة في التخلص من السكن غير المرغوب فيه، وخاصة مع تنامي العشوائيات فى مصر، والتي أصبحت قنبلة موقوتة، تسعى الإدارة السياسية للقضاء عليها، خوفا من تناثر أضرارها فتفت فى عضد المجتمع، فى الوقت الذى تسخر الدولة كل إمكاناتها لجمع شمله، والنهوض به على كل الأصعدة بالتوازى.
ووفقًا للاحصاءات الأخيرة، الصادرة عن صندوق تطوير العشوائيات، فإن مصر بها 351 منطقة عشوائية، مقسمة ما بين عشوائيات غير آمنة، وعشوائيات ناتجة عن سوء التخطيط، فأما العشوائيات غير المخططة، فهى تشكل نسبة 40% من المسطح العمرانى لمصر، بواقع 230 مدينة، على مساحة 417 ألف فدان تقريبًا، فى المدن فقط، منها 160 ألف فدان تفتقد بالكامل إلى الشبكات من مياه وكهرباء واتصالات، فضلًا عن الطرق والمحاور، إما إنها موجودة ولكنها غير كافية لارتفاع الكثافة السكانية، وتحتاج هذه المناطق لنحو 350 مليار جنيه لتطويرها وتزويدها بالخدمات وشبكات الطرق المطلوبة، وبالفعل تم البدء فى التعامل مع هذه المناطق، بواقع 7 مناطق بالجيزة و3 بالإسكندرية، و4 بالغربية والمنيا والوادى الجديد، إلا أن الأمر يستغرق 10 سنوات حتى الانتهاء من هذه العشوائيات تمامًا.
والآن وبعد صبر طويل أصبح سكان العشوائيا ينعمون بمستوى جيد من الرفاهية في منطقة الأسمرات وغيرها من المدن الجديدة المبنية للمواطنين من قاطني المناطق الخطرة والعشوائية، فالدولة لا تكتفي بتعويضهم بالحق في السكن بمنزل فقط وإنما يحيط به جميع المرافق والخدمات، والتي تزيد عن الحاجات الأساسية ليكون بها جوانب ترفيهية كحق أساسي للمواطن، حيث بنيت ملاعب وحمامات للسباحة ومناطق ترفيهية إلى جانب الخدمات والمرافق التي يمكن أن تنهض بالإنسان المصري الذي هو هدف رئيسي للرئيس السيسي.. حفظه الله ورعاه جراء جبره لخواطر المصريين.