مطلوب إصلاحات جذرية لعلاج مشاكل الصحافة المزمنة
لم أستغرب ثورة الغضب التى اجتاحت شباب الصحفيين، ردًّا على محاصرة نقابتهم وواقعة الاقتحام، وكنت أتوقع أحداثا أكثر سخونة واشتباكات عاصفة، وعلينا أن ندرك ونحن نحلل الأزمة الحالية أن الصحافة تغيرت، وأن الحديث عن مصداقية الصحافة وقيمها وتقاليدها كمن يؤذن فى مالطا، وأن الغضب الذى انفجر فى النقابة له روافد أخرى كثيرة.
أكثر من 4 آلاف صحفى جاءوا من الميادين إلى نقابة الصحفيين بعد 2011، بما يعادل نصف أعضاء الجمعية العمومية تقريبًا، ومعنى جاءوا من الميادين أنهم شاركوا فى تغطية الأحداث الساخنة التى شهدتها البلاد فى السنوات الخمس الأخيرة، أو كانوا متظاهرين ومتمردين على الأوضاع السائدة، فقد ولدوا من رحم الأحداث ورضعوا سخونتها وفورانها، وتجسدت أحلامهم فى تغيير الأوضاع القائمة بإيجابياتها وسلبياتها، وأن يشغلوا بشخوصهم وأفكارهم الكيانات الصحفية المرتبكة، وهؤلاء هم الجمهور الحقيقى الموجود فى النقابة، بعد أن هجرتها الأجيال الأخرى، ولا تدخلها إلا أيام الانتخابات.
لم تكن الظروف مهيأة لاندماج الدماء الشابة فى الكيانات الصحفية بطريقة الولادة الطبيعية، بل القيصرية، فالمؤسسات القومية العريقة كانت مثل الرجل المريض، الذى يتنازع الأقارب والغرباء على وراثة تركته، وأدرك القائمون عليها أن بقاءهم فى مواقعهم مرهون بمغازلة الميادين، فانقلبوا إلى ثوار يلعنون الثورة فى سرهم ويسبحون بحمدها فى علنهم، فانهارت بقية الخطوط الدفاعية الضعيفة التى كانت تصون بقاءها، وتدهورت تقاليد المهنة وضوابطها ومصداقيتها، وانحسرت المهنية أمام الميدانية وجرفتها تيارات التظاهر.
ولم تكن الصحافة الخاصة أسعد حالا، وفتحت أبوابها على مصاريعها لأعداد غفيرة من شباب الميادين، فى مقابل حصار الأجيال القديمة وإقصائها، فتغيرت الدماء والأفكار، واختفى «أسطوات» المهنة وأساتذتها، وأصبحوا موضة قديمة، وتم حصارهم فى أعمدتهم دون الاستفادة من خبراتهم، وتسابقت المؤسسات القومية والخاصة فى الاستغناء عن شيوخ وحكماء المهنة توفيرًا للنفقات، وإفساحا وإحلالا للأجيال القادمة.
لم تنته المشاكل، بل تراكمت وتعقدت ووصلت حد الانفجار، بسبب الأزمات المالية الطاحنة التى أدت إلى إغلاق معظم الصحف الجديدة التى ظهرت بعد 25 يناير، وازداد طول طوابير العاطلين، وأصبح مصدر رزقهم الوحيد هو بدل التكنولوجيا، وتحطمت الآمال والتطلعات على صخور اليأس والإحباط، وتدهورت الأحوال المعيشية لغالبية الصحفيين ومعظمهم من الشباب، وأصعب شىء فى الحياة أن يشغل الإنسان مهنة مرموقة، وتكون جيوبه خاوية ومفلسًا، ولم أستغرب انفجار جيل الغضب فى أحداث نقابة الصحفيين، لشعورهم بأن الجميع خانوه وباعوه، ووعدوه بالجنة فلم يجد إلا نارا، واكتشف أن بلاط صاحبة الجلالة الذى يحلم به مجرد عشوائيات، وأن الشهرة التى يحلم بها مجرد أوهام، وأن المستقبل محفوف بالتردى والغموض، فماذا تنتظرون منه أن يفعل؟
إنها بيئة نموذجية مهيأة لكل أنواع التدخل والاختراق والتعبئة والحشد، لأن مؤسساتهم التى يعملون بها فشلت فى تحقيق طموحهم، وحطمتهم ماديا ومعنويا، فلجأوا إلى نقابتهم يحتمون بها، متسلحين بروح الميادين والشعارات الحماسية، دون أن يدركوا أن البلاد أيضا تغيرت، واستردت عافيتها وهيبتها وسلطتها، وأن غالبية المصريين أصبحوا كارهين لعودة الميادين، ويريدون الهدوء والاستقرار، بعد أن ذاقوا مرارة الفوضى والانفلات.. الأحداث الأخيرة مجرد عرض لمرض، وإنذار بضرورة حدوث إصلاحات جذرية لعلاج مشاكل الصحافة المزمنة والمتراكمة منذ سنوات طويلة واستفحلت فى السنوات الأخيرة، وأن يتحقق الأمان المعيشى والمعنوى لشباب الصحفيين، فيشعروا أن مستقبلهم أكثر طمأنينة، وكرامتهم مصونة بالقوانين التى تنظم المهنة وتعلى شأنها ومصداقيتها واستقلالها.. الأزمة الأخيرة سوف تنتهى، ويجب التعامل معها على أنها كاشفة لأوضاع متردية، يتم إخفاؤها وعلاجها بالمسكنات، والمشكلة لن تنتهى بعزل وزير الداخلية أو تسويد الصحف وتوقفها عن الصدور، وإنما بخطط واضحة تتوزع فيها الأدوار بين الدولة والنقابة والهيئات المزمع إنشاؤها، تضمن لشباب الصحفيين الأمرين معًا: رغيف الخبز والحرية.