أبدت دكتورة سهير لطفى إعجابها الشديد بالطرح الفكرى وليس الفقهى، فيما أرى، للدكتور سعد الهلالى وفرحت به واطمأنت له اطمئنانا حملته كلماتها الفرحة المبتهجة بتقريظ طفولى، وابتسم الدكتور فرحانا وهى تقول له إنك جاوزت علم الفقه لتدخل علم الاجتماع، ومن هنا كان قولى الطرح الفكرى وليس الفقهى.
لقد بدا الدكتور سعد الهلالى منتصرا للعقل فى علاقته بالنص، واعتبر العقل هو الأساس وهو الحاكم على النص، ولا أعرف لماذا وضعنا رئيس قسم الفقه المقارن فى ثنائيات «الشريعة والقانون» التى تكلمت عنها فى المقال السابق وثنائية «العقل والنص»، رغم أنهما شريكان وليسا ضدين، فالعقل يفهم النص ويضىء جوانبه المختلفة وينفذ إلى عمقه ليمنحه معانٍ متجددة مع كل عصر وزمن، والقرآن الكريم لا يبلى من كثرة الرد ولا تنقضى عجائبه، والحديث الشريف كذلك يعمل فيه العقل ليكشف مذخوره ويوسع مدلوله، والعقل الصحيح والنص الصحيح توأمان لا يتعارضان ولا يتناقضان، ولو وقع بينهما خلاف فإن ذلك راجع إلى خطأ فى طرق وصول العقل إلى النص، أو أن النص نفسه يواجه مشاكل فى التدقيق والتحقيق والتثبت، أما العقل الصحيح والنص الصحيح فإنهما كالمصباح يضىء لصاحبه طرق الوصول الصحيحة للحقيقة التى تقر بها عينه ويذهب قلقه وتتحقق سعادته وراحته.
تحدث الدكتور عن الإجماع وبدا وكأنه ينفى الإجماع الفقهى، وفى الحقيقة فإن الإجماع يعبر عما هو معلوم من الدين بالضرورة الذى لا يختلف فيه قولان ولا ينتطح فيه عنزان، كما يقولون، وقد قرأت من قبل كتابين بعنوان «الجماع» أحدهما لابن المنذر وهو ينتمى للقرن الرابع الهجرى، وكتاب «مراتب الإجماع» لابن حزم وهو ينتمى للقرن الرابع الهجرى أيضا، وكان متضمنا فى آخره ردا عليه بعنوان «نقد مراتب الإجماع»، لابن تيمية وهو ينتمى للقرن السابع الهجرى، وكنت قرأت مقولة لأحمد بن حنبل عمن ادعى الإجماع فقال له: وما يدريك أنه إجماع لعله مختلف فيه، ومن ثم فإن الإجماع مثل قولنا إن الصلوات خمس وإن صلاة الظهر أربع والمغرب ثلاث، وهكذا، وأنا أكاد أتفق معه فى ذلك أن يكون الإجماع ممكنا اليوم، وأن موضوع الاجتهاد هو فقه العمران والحياة والتحضر وما تصبح به الحياة سهلة وميسورة وإنسانية ومتفقة مع العصر.
وهو تحدث عن الثوابت وبدا وكأنه يتحدث عن المتغير بمدى مطلق لا يكاد يحيطه ثابت أو يحتويه، ورغم أهمية المتغير والدعوة للاجتهاد فيه فإن ذلك لا يعنى أن تكون الاستجابة للمتغيرات بشكل مطلق بل هناك ثوابت هى الإجماع الذى لا يختلف فيه مسلمان ولا ينتطح فيه عنزان، كما أشرت وفى ظل هذا الثابت اجتهد فى كل القضايا خاصة قضايا تجديد الخطاب الدينى وطبيعة العصر والعالم والعلاقة معهما والعلاقة مع الآخر، وماذا نطرح ونبقى من مواد الفقه التى لا تزال تثير مشكلات فى ظل الدولة الوطنية الحديثة بشكلها الحالى؟ وهو تحدث عن الالتقاط، وأنا أتفق معه تماما فى المصطلح الذى أظن أن الشاطبى استخدمه فى الموافقات عمن يتعامل مع الشريعة بمقصد حسن، ومن يتعامل معها بمقصد يحقق ما يريده هو، ويمكن فهم الالتقاط التسرع فى السطو على النصوص وفهومها دون التريث التى تتطلبه فى النفاذ على حقيقتها، وتكلم عن المرويات وبالطبع ليس كل المرويات صحيحة فللمرويات مستوياتها ومراتبها وطرق نقدها ومعرفة عللها وسبر أخبارها، وعلم الحديث رواية ودراية أسس لكل تلك الطرق والقواعد.
فرقت بين الاجتهاد الفقهى والاجتهاد السياسى، ذلك أنى لا زلت أرى أن قواعد الاجتهاد الفقهى تحتاج إلى دراية وتدريب وإلمام بنواصى وعلل الأحكام وهذه لا بد فيها من متخرج من معهد متخصص فيها، بينما الاجتهاد السياسى وهو تخصصى فإن ذلك أقل إلزما وأوسع مسلكا بيد إنه بحاجة لمتخصص فيه أيضا، تحبيب الناس فى الدين لا يكون على حساب قواعد الضبط العلمى والفقهى، فالأساس هو التيسير والترغيب خشية التمييع والتضييع.