تصدر طبيب الغلابة د محمد مشالى المشهد الإعلامى والعالم الافتراضى خلال الأيام الماضية، كنموذج للعطاء ورمز للتفانى والإخلاص فى خدمة البسطاء والفقراء، فكان رحيله عن عمر يناهز 76 عاما صدمة حقيقية لمرضاه، ولأهل منطقته، بل لكل أهل مصر والوطن العربى الذى سمع عنه وعرف رحلته فى الحياة، حيث تسابقت كاميرات التلفزيونات والصحف والإعلام على نقل جنازته وتسليط الضوء على مقتطفات من حياته، بل هبت الدولة وبعض المؤسسات بتكريمه خير تكريم، سواء بنعيه رسميا، وهذا تجلى فى موقف رئاسة مجلس وزراء مصر، أو بإطلاق شارع أو ميدان وهذا حدث فى محافظة الغربية، أو بتسمية دفعة طب 2020 باسمه وهذا ما فعله شيخ الأزهر الشريف، ليعلم الجميع أن الخير باق إلى يوم الدين، وهنيئا إلى من أحسن الله خاتمته.
إلا أن لحياة الدكتور محمد مشالى وجه أخر، لم يلتفت إليها الكثير، وإنما كان التركيز على الرمزية فى العطاء، والتواضع فى ملبس والمأكل والمسكن، وكأنه درويش من دراويش الزمن، لكن يا سادة، نحن أمام طبيب وشخصية ناجحة بكل المقاييس، فهذا الرجل بدأ طبيبا مقيما فى وحدة صحية ريفية، وتدرج فى المناصب والعمل الإدارى، حتى وصل إلى قمته، بتوليه إدارة مستشفيات كبرى قبل خروجه على المعاش عام 2004، فوفقا لما قاله فى أحد اللقاءات التلفزيونية، كان مديرا لمستشفى الحميات ومديرا أيضا لمستشفى الأمراض المتوطنة، فأنت هنا أمام قائد ومسئول، وليس درويشا، لأنه ببساطة لو لم يكن مؤهلا للعمل الإدارى لما كان أتى على رأس مجلس الإدارة لتلك المؤسسات الصحية الكبرى.
الأمر الثانى، الذى يعكس إنه ليس درويشا فى الحياة، فأنت أمام مربى أجيال، وأب استطاع وبكل جدارة أن ينجح فى تربية أولاده وأخوته، ويقدمهم للمجتمع فى أبهى صورة، فها هم خريجى كليات قمة، نعم 3 مهندسين كبار، وبالمناسبة، وفقا لتصريحاته التلفزيونية، أن هؤلاء الأبناء المهندسين مليونيرات فى الحياة، وهذا يعكس أن هناك أبا قائدا أيضا فى البيت، يعلم واجباته تماما تجاه بيته وأسرته أولا ومجتمعه ثانيا.
الأمر الثالث، أنت أمام رجل ذو موهبة رياضية فذة، ثقافة وعلما، ظهر ذلك جليا، أثناء حديثه خلال لقاء تلفزيونى يقدمه لاعب ومسئول رياضى معروف، استطاع أن يبهره ويبهر المشاهدين، بمعلوماته الغزيرة فى الرياضة، وكيف يحفظ ويعلم أسماء لاعبى الأهلى والزمالك فى الزمن الجميل، بل لديه رؤية تحليلية لبعض المأخذ على الكرة المصرية، مقدما حلول لتخطيها والتغلب عليها، والأمر لم يكتف عند ذلك بل أنك أمام رجل ذو ولاء وانتماء لناديه المفضل، يعلم كل كبيرة وصغيرة عنه إدارية وإنشائيا، فأنتم هنا لستم أمام درويش وإنما خبير رياضى بكل ما تحتويه الكلمة من معنى.
الأمر الرابع، الإنسان بلا ثقافة، ناقص فى تلك الحياة، لكن الدكتور محمد مشالى، ظهر أمام العالم أجمع أنه مثقف كبير، وليس مجرد طبيب يساعد مرضاه، فالناظر إلى الكتب والمجلات والجرائد فى عيادته، وهو جالس بينها يؤدى عمله، والمستمع إلى تصريحاته التلفزيونية، وهو يتحدث فى الأدب والفنون، يعلم علم اليقين، أنه أمام إنسان فريد، استغنى عن الحياة بالعلم والثقافة وليس الدروشة، فحديثه عن عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين وكتابه الشهير المعذبون فى الأرض، وكيف كان مثله الأعلى، قائلا، إن وصية أبيه له، أن الله فى السماء وطه حسين فى الأرض، يعلم حقا، كيف شكلت القراءة والثقافة إنسانا مانحا للعطاء والإنسانية لدرجة التفانى والزهد فى كل شىء.
وأخيرا.. فإن المتأمل، لحياة طبيب الغلابة، فإنه يجد أن حياته العملية انقسمت، إلى قسمين، القسم الأول الذى بدأ منذ تعيينه طبيبا فى وحدة صحية ريفية، حتى خرج على المعاش 2004، رجل مسئول فى عمله، حيث كان طبيبا ومديرا ناجحا، ورب أسرة مسئولا، أما القسم الثانى، بدءا من خروجه على المعاش 2004 ألى رحيله2020 ، رجلا زاهدا خادما للفقراء على حساب أى شىء، وكأنه أراد أن يقول لنا، إنه اكتفى بالدنيا حتى سن الـ60 فيها عاش وأكل وشرب وربى وأدى رسالته الأولى وهى "العمل وتربية الأولاد"، وما بعد الـ60 قرر أن تكون حياة ثانية برسالة ثانية، فيها وهب نفسه زاهدا عن الحياة وملذاتها ومظاهرها، لخدمة الفقراء والبسطاء، لدرجة أنه لا وقت للتفكير فى الملبس ولا المسكن ولا المأكل، ولا جمع الأموال، ليخرج من بيته كل صباح متجولا بين عياداته الثلاث راجعا منتصف الليل لبيته، دون كلل أو ملل، حتى وافته المنية، وكرمه الله فى هذه الدنيا أحسن تكريم.. فاللهم ارحم دكتور مشالى وأهب للفقراء مليون مشالى جديد.