ما زال النظام التركى مستمرا فى طريقته الهزلية التى هى أشبه ما تكون بالأعمال الفنية الهابطة التى قد تجتذب الكثير من الإعجاب والمشاهدة من جمهور لا هم له إلا الضحك والتسلية والسعى خلف التشويق والإثارة، بينما هى فى الواقع أنها لا تقدم مضمونا مفيدا ولا فكرا عميقا، فمن ذلك المشهد الذى تناقلته وسائل الإعلام لرئيس الشؤون الدينية التركية على أرباش وهو يعتلى منبر آيا صوفيا متقلدا سيفه وكأنه مقبل على الحرب لا على شعيرة من شعائر الإسلام وهى خطبة الجمعة التى هى موطن الاستكانة والخشوع والخضوع والروحانية، وقد أثار هذا المشهد استياء معظم من شاهده من المسلمين وغير المسلمين، نظرا لما احتواه من دلالات وما تضمنه من إشارات فى غاية القبح والسوء، فالسيف ليس إلا رمزا للحرب والقتال فأى حرب أو قتال كان يخوضه أرباش على منبر الجمعة؟ وما الرسالة التى أراد رئيس الشؤون الدينية بتركيا أن يرسلها إلى العالم وهو يعلم يقينا أن هذا المشهد الهزلى على مرأى ومسمع من العالم كله، ولا شك أن ما فعله أرباش كان محل إعجاب من الرئيس التركى الذى كان حاضرا لهذه المسرحية إن لم يكن هو من أخرجها بنفسه فهو محترف هذا المجال، ولولا أن هذا المشهد بدلالاته القبيحة التى شوهت صورة الإسلام كان على مرأى ومسمع من العالم كله لاعتبرناه شأنا تركيا خالصا لا دخل لنا به، وفى الوقت الذى يجاهد علماء المسلمين وعقلاء الأمة وحتى الكثير من المفكرين المعتدلين من غير المسلمين كى يدفعوا عن الإسلام تهمة العنف وشبهة الانتشار بالسيف، يقف أرباش بمنتهى الاستخفاف ليهدم فى لحظة واحدة ما بناه علماء الإسلام فى سنين عديدة، وكأنه يقدم على طبق من ذهب مبررات الانتقام من المسلمين الذين نشروا الإسلام بالسيف كما قدم رئيسه من قبل مبررات تهويد المقدسات بتحويله آيا صوفيا إلى مسجد، ولأن أزمة الإسلام الحقيقية لم تكن يوما ما فى أعدائه الصرحاء بقدر ما هى كامنة فى فكر أتباعه السذج البسطاء، فقد انبرى بعض المتعاطفين للتفتيش فى كتب الفقه لاستخراج ما ظنوه دليلا يصحح فعل أرباش من بين ثنايا سطور الكتب التراثية التى قيلت فى واقع غير الواقع وزمان غير الزمان، وعادة اجتزاء النقول وانتزاعها من سياقها الواقعى والتاريخى تكاد أن تكون منهجا مطردا عند هؤلاء، ونحن نعلم ما قاله كثير الفقهاء من مشروعية الاتكاء على العصا والقوس والسيف والأشخاص لخطيب الجمعة وقت الجمعة، بيد أننا نعلم أولا: أن السنة النبوية لا تثبت بقول فلان أو علان، إنما تثبت بالنص الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونعلم أيضا أن السيف لم يرد له ذكر مطلقا فى وصف اتكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يوم الجمعة لا فى حضر ولا سفر إنما كان يقتصر على القوس والعصا، ونعلم أيضا من الروايات الصحيحة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان من عادته الاتكاء على العصا فى الجمعة وغير الجمعة على سبيل العادة المتبعة فى هذه الأعصار من عموم الناس، أما الاقتصار على ذكر العصا والقوس، فقد روى أحمد عن البراء بن عازب أنّ النّبِيّ صلّى اللّهُ عليهِ وسلّم خطب على قوسٍ أو عصا. وقد روى مثله عن عدد من الصحابة فى مناسبات شتى ليس فيها ذكر السيف مطلقا، وروى ابن ماجه فى سننه من طريق عبد الرحمن بن سعد بن عمار بن سعد، حدّثنِى أبِي، عن أبِيهِ، عن جدِّهِ، أنّ رسُول اللّهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّم، كان «إِذا خطب فِى الحربِ خطب على قوسٍ، وإِذا خطب فِى الجُمُعةِ خطب على عصًا». مما يدل دلالة قاطعة على أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يكن يستعمل آلة الحرب فى وقت السلم أبدا فضلا عن أن يستعملها فى المسجد وقت صلاة الجمعة، ولأن الغرض من هذا هو مجرد الاعتماد على شيء يريح الخطيب من طول الوقوف فى الخطبة، وحتى يشغل يده بشيء يمنعه من العبث باللحية الذى نراه من بعض الخطباء فى هذه الأيام وهذه العلة منصوص كتب الحنفية والمالكية، فإلحاق الفقهاء السيف الذى لم ينص عليه فى السنة بالعصا والقوس المنصوص عليهما من حيث أنها أداة تصلح للاتكاء عليها كما أسلفنا، ونظرا لما بين السيف والقوس والحرب من تناسب نقول بقياس السيف على القوس وبمشروعية الاتكاء عليه فى الحرب فقط، على أننا بينا فى كثير من المواطن أن القتال فى الإسلام لم يشرع إلا دفاعا عن النفس والدين ولم يشرع اعتداء أو من أجل فرض العقائد أو قهر الغير على الدخول فى الإسلام عملا بقول الله تعالى: (وقُلِ الحقُّ مِن ربِّكُم فمن شاء فليُؤمِن ومن شاء فليكفُر) وبقوله تعالى (وقاتِلُوا فِى سبِيلِ اللّهِ الّذِين يُقاتِلُونكُم ولا تعتدُوا إِنّ اللّه لا يُحِبُّ المُعتدِين)... وقد حذر الحافظ ابن القيم من فقهاء الحنابلة من سوء فهم كلام الفقهاء فى مسألة الاتكاء على السيف بل ورفض رفضا باتا كونه من السنة فقال فى زاد المعاد (1/429) : ولم يكُن يأخُذُ بِيدِهِ سيفًا ولا غيرهُ، وإِنّما «كان يعتمِدُ على قوسٍ أو عصًا قبل أن يتّخِذ المِنبر» وكان فِى الحربِ يعتمِدُ على قوسٍ، وفِى الجُمُعةِ يعتمِدُ على عصًا. ولم يُحفظ عنهُ أنّهُ اعتمد على سيفٍ، وما يظُنُّهُ بعضُ الجُهّالِ أنّهُ كان يعتمِدُ على السّيفِ دائِمًا، وأنّ ذلِك إِشارةٌ إِلى أنّ الدِّين قام بِالسّيفِ، فمِن فرطِ جهلِهِ، فإِنّهُ لا يُحفظُ عنهُ بعد اتِّخاذُ المِنبرِ أنّهُ كان يرقاهُ بِسيفٍ ولا قوسٍ ولا غيرِهِ، ولا قبل اتِّخاذِهِ أنّهُ أخذ بِيدِهِ سيفًا البتّة وإِنّما كان يعتمِدُ على عصًا أو قوسٍ...انتهى.. وهذا الكلام يوقفنا على مدى خطورة النقل الأعمى من الكتب القديمة دون النظر إلى علل الأحكام وقواعد وأصول ومدارك أهل العلم، الذين حذروا من هذه الظاهرة الخطيرة التى يستعملها بعض الجهال اليوم للتلبيس على العامة موهمين أتباعهم أنهم من أهل العلم وبينهم وبين العلم بون شاسع، فما كان العلم يوما نقلا عشوائيا من كتاب، قال الإمام القرافى فى كتابه الفروق (1/176): «فمهما تجدد العرف اعتبره، ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور فى الكتب طول عمرك، إذا جاء رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك، فلا تجرِهِ على عرف بلدك، واسأله عن عرف بلده، وأفته به دون عرف بلدك، والمقرر فى عرف كتبك، فهذا هو الحق الواضح والجمود على المنقولات أبدًا ضلال فى الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين».