بنفس واحد يتصيد الكاتب والروائي الفلسطيني ناجي الناجي الحنين، في روايته "سماء وسبعة بحور" الصادرة حديثاً عن دار ابن رشد، يحملق في الماضي الممتد إلى الحاضر؛ شئنا أم أبينا فإن الأمس بغيومه وبريقه حاضر باستفحال، فأمس الفلسطيني ليس مقطوع الظل وحياته دائماً على أهبة التذكر، فلا حاضر ولا مستقبل دون هذا الأمس العويص، الوحشي، كما أنه لا حياد في عيشة الفلسطينيين، سواء المقيمين في الأراضي الفلسطينية، أو المتبعثرين تحت سماء واحدة بين سبعة بحور في المنافي والشتات، هذا ما كتبه وترصده الناجي هنا في روايته الجديدة، كذلك فعل في كتاباته السابقة كمسرحيتي "قيثارة من رخام" (1999)، "زعتر قرمزي" (2002)، ومجموعته القصصية "ترنيمة إلى الضفة الأخرى" (2016).
على حافة الحياة الفلسطينية يضع ناجي الناجي قدماً ثم يخطو ويتوغل كما السندباد في البحار السبعة، يقاوم ظروف الاحتلال والمتاريس والتصاريح، عثرات ومنغصات يمكن أن تعترض طريق لاجيء، كيان هش كواحد من أبناء الغربة والشتات، كيان متهلل لبلاده التي تسكن وجدانه خريطة وعاطفة وبشر، بلاده التي يزورها لأول مرة وهو يحاول كمن يمشي على حبل رفيع، أن يقيس المسافة بين المادي الملموس وبين الخيال، إنه يعود إلى بلاد لم يسكنها لكنها سكنته، لم تطأ قدم طفولته أرضها لكنه شتلة تشتاق جذورها إلى تربة هذه الأرض، لم يزرعها لكن جدوده فعلوا ويحمل في حقيبته مثل كل فلسطيني الزعتر والمريمية، زرعة الفلسطيني وميراثه الذي تتناوله أجيال الغربة، من ناحية أخرى وعلى نفس النهج العنيد، المشاكس، فإن الكاتب يناهض بشكل ما السرد التقليدي مثل التداعي الحر للأفكار، المونولوج الداخلي، وسواهما من تيمات وتقنيات سردية أخرى تدعم فكرة تضفير الواقعي بالمتخيل، الماضي بالحاضر مما يزيد العمل تركيباً وتحريضاً على الشكل والمضمون.
إن سرد ناجي الناجي في جديده المترع بلغة شعرية تطرق كل أبواب التوق والاشتياق، له تأثيره الفعال في طرح موضوعه؛ حيث أنه يأت وفق نظرة مفتوحة على التاريخ والآني، ثمة حقيقة ثابتة تدور حول الألم الذي يتخلله فرح بالاشياء الهامشية، فيبدو الفرح في سرد ناجي هو براعة الألم نفسه، هذا الإحساس الطاغ الذي يشده إلى مساحته الخاصة التي يرسم فيها وطناً يسكنه ويتوغل في أرجائه بعيداً عن لعبة الخرائط السمجة، هناك رغم كل الوجع أفقاً مفتوحاً على أمل ما يسهم في مواجهة أكثر الأوضاع صعوبة وسوداوية، فلسطين تطلع من سرد الناجي، سيرة راهنة وسالفة ليست مذابحاً وتقويضاً للبيوت وناسها، ليست كصخرة ثقيلة على صدر هذا العالم الذي يسعى إلى إزاحتها، إنما حياة يجرجرها الفلسطيني يوماً بيوم ويعبر بها بين قنابل العدو وفخاخ الهواجس والقلق، باحثاً عن بقايا أمله في حياة غير ماكرة.
ما يأسر في هذا التحدي الفلسطيني اليومي هو ذاته ما نلمسه في هذه الرواية، ليست العظَمة ولا القوة ولا البطولات، بل البساطة التي تبدو مستعدة كل صباح تبدو لتُجدِّد يقينها بالجغرافيا والتاريخ، لتسجل سطراً جديداً في الذاكرة يشع مشرقاً على المشهد الفلسطيني بشكل عام، معلناً عن نفسه بتجل ساطع؛ نلمحه منذ الإهداء الذي أعطاه الناجي إلى والده جمعة الناجي، إمتداد الفرع للجذر، مصدقاً له كمهجة وفكرة ومسيرة، واثقاٌ بإيقاع البحر ومده وجزره وثورته، يستحث الفعل لا الفرجة واقتفاء النورس، ومن الإهداء إلى فصول الرواية التي تحمل عناويناً تتمازج بين الجدية وقليل من فانتازيا الألم، 26 لوحة تتهدل بين المثابرة والولع إلى حد التنافس، بكلمات تعتصر الأنين الصارخ من قاموس الوجد و التوق، يوعز العنوان فيها إلى الحالة الفلسطينية المتفردة، تاريخها وجغرافيتها وناسها في الداخل والخارج: مخيم اليرموك 1980، الجسر، عين الحلوة حزيران 1982، دخول أول، أبو قيس – نيقوسيا، اليرموك 1983، مظلة، ربطة عنق، قطار موحش من بودابست إلى براغ 1986، جنين، صوفيا 88، الخليل، على كفوف الياسمين 1990، بيانو في رام الله، مهد الحكاية، جامعة القاهرة 2000، ربطة عنق عن ربطة عنق .. تفرق، أورسالم، البشارة، غرة كانون الأول 2008، صعود نحو ما كان، العباسية السبت 13 كانون أول 1947، مسير على إيقاع الهرج، عبر الأثير 2010، غيث في رام الله، غسق أخير بأرض الأرجوان.
زياد بطل الرواية متأرجحاً بين ماضيه وحاضره، الصبي في مخيم اليرموك، اللاجيء، الزائر لبلاده الذي يزداد انتمائه حناناً وتوتراً في ذات الوقت، يرى أهله من زاوية أخرى ربما لم ينتبه إليها من قبل، فيخطو خطواته بطريقة مختلفة في زيارته الأولى، ليست كلاسيكية سواء في اختياراته للأماكن التي يتطلع لرؤيتها أو في مزجه بين الأشياء بطريقة غير مقصودة، بما يشبه التلقائية؛ او في التقاطع والتوازي في سرده بين الماضي والحاضر، إذ أن الرحلة أخذت إطاراً وشكلاً يشبه زياد الذي أطلق روحه لتضاريس بلاده، لكل تفصيلة فيها تغطي جزءً من روحه، بما يساوي ما أراد أن يبرهنه في زيارة لم يسع إليها لقراءة السلام على الأطلال أو تعلقاً بحواديت قديمة، بل لمحاورة النفس للصحو والاستفاقة والعبور من أنفاق مظلمة إلى فضاءات بديلة لا ينطفيء فيها التمرد.
من زياد المشبع بالأسئلة والتقصي، إلى صديقه يحيي؛ وجه أخر للفلسطيني الغائب في تشعبات التيه والفقدان، تفوحُ في الرواية رائحة الزعتر والمريمية في أكثر من موضع، روائح الفلسطيني الذي تدل عليه وتُعرف بها حقيبته كما جاء في "الجسر" من رائحتين: الزعتر والميرمية، إلى التفرق في مخيمات وبلاد متفاوتة: عين الحلوة، اليرموك، نيقوسيا، صوفيا، بودابست، براغ، تونس، القاهرة، إلى حصار الاحتلال وقسوته: الخليل، أورسالم، غزة، مخيم جنين ومذبحة يستحيل نسيانها:"قبل البدء بالجولة علينا أن نذكرك أن التقويم في هذا المخيم يختلف عن تقويم باقي البشر، في العالم يوجد قبل الميلاد وبعد الميلاد، هنا يوجد قبل المعركة وبعد المعركة"، يشير إلى المذبحة التي غذت النرجسية الصهيونية بالدم الفلسطيني، وحولت المخيم إلى جغرافيا للوجع من صور الشهداء على جدرانه إلى مقبرته الشاسعة، تزيد تفاصيل السرد من وطأة الوجع، إذ يصل إلى الصبي، ساقي الزرع في المقبرة، بينما يخبره عن أسماء ساكني القبور ويحكي عن مقاتلين من فصيلين مختلفين استشهدا بقذيفة واحدة؛ فالتحما جسديهما، ثم يختتم حديثه بجملته الحاسمة:" من يرقدون في هذه القبور الآن هم من كانوا يسقون زرع قبور من يرقدون في قبور الجهة الأخرى قبل استشهادهم".
شفافية هذا الصبي تنبع من جلاء فكرة الكاتب الذي شرع في رحلته ليحقق وهجاً خاصاً، أو لينفذ حلمين؛ أولهما كما جاء في "ربطة عنق"، يخص كل لاجيء يريد أن يتيقن من أن رموز بلده من خارطة وثوب مطرز وزعتر وميرمية ليست سراباً أو علامات للنوستالجيا، بل حقيقة وواقع تهتز له الأرض، والثاني أن ينقل ما يراه إلى العالم في الخارج عبر كتاب وفيلم، والأمر الأهم أن يحطم إحساس غربته وشتاته ويعانق بلاده، ثم يقول كما في "مهد الحكاية": أنا من هنا.
أمصمم أن تبقى خارج الحكاية؟! إحترفت الهامشي، يجيب الكاتب على السؤال، كما لو كان لم يتورط في الحكاية ولم يواصل الماضي والمضارع فيها، حيلة من حيل الكتابة ربما لتخفيف وطأة المجاز والحقيقي، أو طريقة من طرق الزهد والتنسك في التأمل؛ لكنها لا تنفي التحديق العميق في اللحظة الفلسطينية قديماً وحديثاً، كما قدمته الرواية التي ترجلت فيها الروح لتذهب إلى ما أبعد من النظرة العابرة في التاريخ والجغرافيا، بحدس الأمل الذي يطل في "غسق أخير بأرض الأرجوان": "ويرسم بشعاعه بحراً ونهراً ورابية"، إنه حلم الفلسطيني الغريب، الداخل والخارج من بلاده محاولاً الحفاظ على بؤرة الضوء في قلبه.