للأحوال العادية أحكامها، وللنوازل أحكامها، والطامة الكبرى فى انسداد أفق من لا حظَ لهم من العلم النافع، ممن جمدت عقولهم عند حفظ بعض المسائل أو الأحكام الجزئية، دون أن يلموا بشىء من فقه الأولويات أو فقه النوازل، ولم يفقهوا شيئًا من قضايا الاستحسان والاستصحاب، أو المصالح المرسلة، أو ما عمت به البلوى، دون أن يفرقوا بين الكليات والجزئيات، ودون أن يحسنوا ترتيب الكليات أو المقاصد الضرورية، ولم يفقهوا مراد الشارع منها، إنما جعلوا عمدتهم ورائدهم فى كل شىء بعض ما حفظوه من بطون الكتب أو ما أخذوه على يد كبيرهم فى الجماعة أو التنظيم، فيحفظونه وكأنه القرآن الكريم، الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، بل إن أحدهم يجادلك فى فهم النص القرآنى المقدس، ولا يسمح لك أن تراجعه أو تناقشه فى كلام شيخه ومرجعه، حتى لو كان هو أيضًا لم يفهم كلام من نقل عنه على وجه صحيح؛ لأن الولاءات التراتبية فى هذه الجماعات لا تسمح بالنقاش أو المراجعة أو الحوار العقلى.
وعندما ننظر فى أمر صلاة الجمعة، نجد أن الأصل فيها أنها واجبة على كل مسلم عاقل بالغ مكلف, حيث يقول الحق سبحانه: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِى لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِى الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ». «الجمعة 9, 10», ويقول نبينا «صلَّى الله عليه وسلَّم»: «الجُمعة حقٌّ واجب على كلِّ مسْلِم فى جماعة، إلاَّ أربعة، عبْدٌ مملوك، أو امرأة، أو صبى، أو مريض»، «صحيح على شرط الشيخين»، وعن أبى هريرة وابن عمر«رضى الله عنهما» أنهما سمعا النبى «صلى الله عليه وسلم» يقول على أعواد منبره: «لينتهينّ أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين»، «صحيح مسلم».
فالأصل فى صلاة الجمعة هو الوجوب، لكن فى وقت النوازل لو صلى كبار السن والمرضى فى بيوتهم، فلا حرج عليهم, ليس هذا فقط، بل من صلى الجمعة فى بيته ظهرًا تخوفًا أو تحوطًا, أو أراد بنيته أن يؤثر الآخرين على نفسه، أو من أجل عدم التزاحم، فلا حرج عليه.
وللأسف الشديد لا يزال هناك متحجرون يقفون عند ظواهر النصوص، ولا يتجاوزون الظاهر الحرفى لها إلى فهم مقاصدها ومراميها، فيقعون فى العنت والمشقة على أنفسهم وعلى من يحاولون حملهم على هذا الفهم المتحجر، دون أن يقفوا على فقه وفهم مقاصد السنة النبوية المطهرة المشرفة بما تحمله من وجوه الحكمة واليسر، وما لو أحسنا فهمه وعرضه على الناس، لغيرنا تلك الصورة السلبية التى سببتها أو سوقتها الأفهام والتفسيرات الخاطئة للجماعات الإرهابية والمتطرفة والمتشددة، ورؤى أصحاب الأفهام السقيمة الجامدة المتحجرة على حد سواء، ورحم الله الحسن البصرى حين قال: «.. فَإِنَّ قَوْمًا طَلَبُوا الْعِبَادَةَ وَتَرَكُوا الْعِلْمَ حَتَّى خَرَجُوا بِأَسْيَافِهِمْ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ «صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» وَلَوْ طَلَبُوا الْعِلْمَ لَمْ يَدُلَّهُمْ عَلَى مَا فَعَلُوا», فنحن فى حاجة إلى خطاب دينى مستنير، يرتكز على فهم المقاصد العامة للشرع الحنيف، ويراعى فقه الواقع والمستجدات وأحوال الطوارئ والنوازل والجوائح بفكر مستنير.