أتيحت لي فرصة الاقتراب مما تبقى من الوثائق الخاصة باللواء محمد نجيب (1901-1984)، أول رئيس لجمهورية مصر، الذي لم يتذكر المصريون اسمه إلا بعد وفاته في 28 أغسطس 1984، بعد أن ظل بعيدا عن الأضواء منذ خلافه مع أعضاء مجلس قيادة الثورة وعزله من مناصبه في 14نوفمبر 1954.
وقبل الدخول في قضية الصراع بين اللواء محمد نجيب من جهة ومجلس قيادة الثورة من جهة أخرى هل كان صراعا في سبيل إتمام المبدأ السادس للثورة (إقامة حياة ديمقراطية سليمة) الذي جرى تأجيله أم كان صراعا على السلطة؟
أود أولا الحديث عن تجربتي الشخصية مع وثائق محمد نجيب.
كانت البداية صيف عام 1999 عندما كانت مصر تحتفل بثورة 23 يوليو ونشرت الصحف صورا للرؤساء الثلاثة (جمال عبد الناصر وأنور السادات وحسنى مبارك) وتجاهلت اللواء محمد نجيب، فكلفني الشاعر الكبير فاروق جويدة رئيس القسم الثقافي بالأهرام وقتها بعمل تحقيق عن وثائق الرئيس محمد نجيب، ولماذا تأجل افتتاح متحف مجلس قيادة الثورة بالجزيرة؟ وأعطاني أرقام بعض المصادر منها اللواء حسن سالم ابن شقيقة الرئيس محمد نجيب.
وعندما ذهبت إلى منزل اللواء ا. ح حسن في حي المنيل قال لي إذا أردت الحصول على كنز من الوثائق عن فترة محمد نجيب اذهب الى السفير رياض سامي الذي عمل مديرا لمكتب نجيب وسكرتيره الصحفي حتى إقالته. كان رياض سامي شخصية قوية ويحمل تجارب حياتية فريدة، وقد ظلت علاقتنا مثل الابن بأبيه دائم الإقامة في منزله بالزمالك حتى وفاته في عام 2009.
وقد أطلعني رياض سامي على وثائق نادرة استعنت بها في تأليف كتابين، الأول بعنوان "رياض سامي شاهد على عصر محمد نجيب" وكان الضابط رياض سامي أحد الثلاثة المقربين من نجيب وهم محمد رياض قائد الحرس الخاص وقد سافر إلى السعودية قبل عزل نجيب لصلاته القوية بالملك سعود. والسفير إسماعيل فريد الذي كان مستشارا عسكريا لنجيب ووصفه خالد محيي الدين عضو مجلس قيادة الثورة في مذكراته " والآن أتكلم بأنه كان عينا لعبد الناصر ومجلس الثورة لمعرفة أخبار نجيب. وقد نفى لي إسماعيل فريد تلك التهمة مؤكدا أنها تدخل في دائرة الصراع السياسي والخلاف بينه وبين خالد محيي الدين.
ثانيا أطلعتني أسرة الضابط السوداني أحمد مدثر حجاز الذي عمل مديرا لمكتب اللواء محمد نجيب في سلاح المشاة قبل الثورة على وثائق نجيب والسودان.
ثالثا. أجريت 128 محضر نقاش وتسلمت العديد من نسخ إجابات أعضاء مجلس الثورة والضباط الأحرار على أسئلة اللجنة التي كلفها الرئيس الراحل أنور السادات بكتابة تاريخ ثورة 23 يوليو وقارنت بينها وبين أحداث هامة ووثائق ومذكرات لتكتشف حجم التناقضات الكبيرة حول الأحداث بنفس الرواة فهناك أكثر من 30 رواية لليلة الثورة وحقيقة تحرك يوسف صديق مبكرا قبل الموعد بساعة ولماذا تم تكريم اللواء محمد إمام إبراهيم رئيس البوليس السياسي قبل الثورة ،ودور الفريق محمد حيدر القائد العام وخال المشير عبد الحكيم عامر في تضليل الملك فاروق مرورا بأسباب زيارة محمد هاشم وزير الداخلية في حكومة سرى باشا لمحمد نجيب قبل الثورة.. روايات عديدة للحدث الواحد.
وعبورا فوق قضية الوثائق إلى الصراع الذي بدأ بين فريق نجيب داخل مجلس القيادة وكان محمد نجيب يقف في صفه العقيد يوسف منصور صديق والصاغ خالد محيي الدين. بينما البكباشي جمال عبد الناصر وبقية أعضاء مجلس الثورة الـ 14 في معسكر واحد. وعرف عن الأخوين جمال وصلاح سالم أنهما كانا أكثر معارضة لـ محمد نجيب داخل المجلس.
كان نظام التصويت داخل مجلس قيادة الثورة يقوم على الصوت الواحد بما فيهم اللواء نجيب رئيس مجلس قيادة الثورة والقائد العام وفيما بعد رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء. إلا أنه كان صوت واحد ومعه يوسف وخالد مقابل أغلبية الأعضاء.
وقد ظهر الخلاف مبكرا في قضيتين أولهما إعدام العاملين خميس والبقري بعد أحداث إضرابات كفر الدوار، حيث كان نجيب ضد إعدامهما لأنه يرى أن الثورة لا يمكن أن تبدأ عهدها بدم العمال والمواطنين بينما رأى مجلس الثورة أن الحسم مطلوب وللحديث بقية.