لست أدرى لماذا يغضب كثير من الزملاء من أى تصريح أو رأى غير متفائل بمستقبل الصحافة الورقية فى مصر، ألا ندرك جميعا الحقيقة المرة التى نعيشها فى ظل ضرورة حتمية مؤداها أن العالم حاليا يتجه وبقوة إلى الفضاء الالكترونى؟
كثير من الصحفيين ظلوا طوال الأسبوع الماضى يتشدقون بعبارات بالية: من قبيل أننا لايمكن أن نستغنى عن الصحافة الورقية، غير واعيين للكارثة التى نعيشها منذ سنوات، وتحديدا ما بعد أحداث 25 يناير، حين عزف الشباب الذين يشكلون الغالبية العظمى من سكان مصر حاليا (65% تقريبا) عن شراء الصحف أو اقتناء الكتب الورقية بعد ان وجد ضالتهم المنشودة فى الفضاء التخيلي.
جمهور غفير من صحفيين مازلوا يعيشون فى وهم ما يسمى بأن الصحافة لا تفقد رونقها وبريقها مهما تغيرت الأحوال وتبدلت الظروف، يظل هنالك خوفا ما وقلق شاب بعض المهتمين بالصحافة المصرية من تراجع دور الصحافة الورقية إلى درجة الانهيار أو الاندثار، ليس فقط بالنسبة للصحف المستقلة بل والقومية على رأسها، وبالمناسبة ليس بعضها بل جميعها، فى ظل أن الموقع الإلكترونية، باتت تمثل عفريتاً أو لصاً بإمكانه أن يسرق من الصحافة الورقية عرشها التاريخي.
وقد جاءت تلك المخاوف بعدما أشار تقرير حديث إلى تراجع توزيع الصحف القومية والمستقلة المصرية مؤخراً بدرجة مثيرة للهلع، مع ارتفاع تكلفة الطباعة، بحيث صارت تمثل عبئاً مالياً، بسبب وجود فجوة مالية بين التكلفة الفعلية وسعر البيع، إلى جانب تراجع عائدات الإعلانات لأسباب كثيرة تتابع حدوثها خلال السنوات الأخيرة، حتى أن البعض تساءل: هل تكتب الصحافة الورقية "المانشيت" الأخير؟، ولفت التقرير إلى أن تعامل الدولة مع الأزمة فى ظل كورونا جاء على سبيل تضميد ما يمكن تضميده من جراح.
واستشهد التقرير بلجنة إدارة الأزمة فى الهيئة الوطنية للصحافة التى عقدت اجتماعاً فى نهاية مارس الماضى حضره رؤساء مجالس إدارات المؤسسات الصحافية القومية وتم استعراض الموقف فى ما يتعلق بتوافر خامات ومستلزمات الإنتاج من ورق وأحبار وألواح طباعة وغيرها، واطمأن المجتمعون إلى أن المستلزمات تكفى لمدة ستة أشهر، لكن الاجتماع لم يتطرق إلى محتوى الصحف الورقية، وهو أهم أطواق النجاة أو عوامل الإنقاذ من الغرق فى مستنقع التراجع المهنى الذى أصبح كابوسا مفزعا يطارد الذى يعرفون أصول مهنة القلم.
فى مقال سابق لى هنا - الجمعة 9 أغسطس 2019 - بعنوان "إنقاذ الصحافة الورقية أصبح ممكنا .. ولكن؟"، قلت أن الأمل الأخير والوحيد لإنقاذ الصحافة كواحدة من أدوات الإعلام هو إصلاح وتطوير المحتوى، وذكرت فى ذات السياق الذى تحدث فيه وزير الإعلام مؤخرا، بأن مستقبل الصحافة الورقية أصبح مرهونا الآن بالمهنية والإبداع، فالصحافة القومية لن تقدر على التطور ومجاراة الصحافة الإلكترونية إلا عن طريق الاهتمام بما وراء الخبر من تحليل ومتابعات وآراء.
وقتها كان يبدو لى أن الأمل الأخير والوحيد لإنقاذ الصحافة كواحدة من أدوات الإعلام أصبح ممكنا الآن، من خلال ما طرحه الرئيس عبد الفتاح السيسي، فى مؤتمر الشباب بالعاصمة الإدارية، والذى كان يرمى فى جوهره إلى ضرورة تطوير المحتوى الإعلامى وتطويره، وإصلاح الإعلام ومنه الصحافة الورقية على وجه الخصوص فى مصر كان ممكنا - قبل جائحة كورونا التى فرضت شروطا جديدا وغيرت المعادلة تماما - وقلت وقتها أيضا: نحن بحاجة لإرادة قوية، رغم أن الواقع يكشر لنا أنيابه، فأغلب المؤسسات القومية فى مصر خلال السنوات القليلة الماضية تعانى أزمات متعددة، بسبب التطور التكنولوجى وارتفاع أسعار الورق والمطابع، فضلا عن أزمات اقتصادية طاحنة، ما أدى بالضرورة إلى تناقص أعداد التوزيع لعدد من الصحف أو التحول إلى مواقع إلكترونية دون إصدار نسخ ورقية.
الواقع المر الحالى يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن صاحبة الجلالة تئن من كثرة أوجاعها، طالما ظلت بعض قياداتها تتشدق بالأسئلة الصعبة والمستهجنة من قبيل أن (الصحافة الورقية تمرض ولا تموت)، علما بأن أحد منهم لم يكلف نفسه ملامسة الواقع الموجود على الأرض، ويعترف بأن نسب توزيع الصحف المصرية تراجعت بصورة ملحوظة بحسب آخر إحصاء لعام 2018 بسبب تدنى مستواها المهني، ولم تكن أزمة التوزيع الوحيدة التى طالت الصحف المصرية الورقية بشقيها القومى والخاص، بل لايمكن أن نغفل الأزمات المالية التى كانت السبب الرئيسى فى إغلاق عدد من الصحف، وهو ما أرجعه خبراء الإعلام إلى أن الصحافة الإلكترونية أصبحت البديل الأمثل باعتبارها الأرخص تكلفة من الصحف الورقية.
إذن علينا أن لا ندفن رؤوسنا فى الرمال ونعى جيدا حقائق الأمور التى تشير إلى عدم قدرة الصحافة القومية على التطور، كما أن الواقع يشير إلى أن الصحف المصرية الحالية لا تحيط بما شهدته الصحف العالمية من تطور كبير خلال الفترة الماضية، بعد انضمام وسائل جديدة لنقل الخبر وعلى رأسها الهواتف النقالة، وبحسب الأكاديمى الدكتور محمود علم الدين، فإن بعض الصحف العالمية المطبوعة اكتفت بإصداراتها الإلكترونية، موضحا أن عدد متابعى الصحف الورقية على مستوى العالم بلغ 2 مليار و700 مليون، فيما يبلغ عدد متابعى الصحافة الإلكترونية قرابة 3 مليار و200 مليون شخص على مستوى العالم.. إذن نحن فى أزمة حقيقية تحتاج إلى إيجاد حلول عاجلة تحول دون الوصول حافة الزوال.
نحن بحاجة إلى حس صحفى روائي، استنادا لقاعدة "تولستوى" فى كتابة أحداث الرواية: على طريقة "دعنى أرى ماتراه"، وهو مبدأ مهم أرسته جريدة "وول ستريت جورنال" فى تدريب كودارها الجديدة، الأمر الذى مكنها من تجاوز أزمتها قبل عشر سنوات من الآن، وأيضا لابد لنا من الاهتمام أكثر بالرأى والتحليل والمتابعة الدقيقة، وصناعة ملفات احترافية تمس حياة المواطن اليومية، لكن بعضا من هذا وليس كله يتطلب بالأساس اختيار الكوادر الصحفية المنتظرة - هذه المرة – بحيث تكون واعية بحجم الكارثة التى تتربص بنا، كوادر مهنية تدرك حقيقة العصر حتى يستطيع الورق منافسة الفضاء الإلكترونى الذى يمتاز بالانتشار السريع.
كفانا ضياعا واستهتارا بمهنة القلم التى عجزت عن حل أزمتها فى وقت يشهد أكبر تطور فى عصر الميديا، الأمر الذى انعكس على حرمان الصحافة الورقية من ملايين الجنيهات التى كانت تتدفق عليها من الإعلانات، وتوقف قطاع كبير من القراء عن التعامل معها، وهو قطاع الشباب أو من هم دون الأربعين، هؤلاء الذين لم يعرفوا ملمس الورق ورائحة الحبر ومطالعة الجريدة الصباحية، هؤلاء الذين نشأوا فى عصر الستالايت والشبكة العنكبوتية و"السمارت فون"، وبالتالى توجد أزمة حقيقية فى المحتوى، وإذا لم تنتبه الصحف الورقية إلى ضرورة أن تطور من أدائها وفكرتها وطرائق تواصلها ومحتواها، لن يكون لها فائدة.
لدى يقين راسخ الآن أن إنقاذ مؤسساتنا الصحفية وخاصة القومية منها ممكن فى هذه اللحظة الفاصلة من عمر وطن تحيط به كثير من المخاطر، لكن ذلك شريطة حسن الاختيار، خاصة أنه مازالت بعض مؤسساتنا القومية تملك قدرا المواهب والكفاءات الصحفية القادرة على قيادة الدفة والوصول لبر الأمان، كما أن النار التى تستعر حاليا فى جسد صاحبة الجلالة تأتى للأسف من مستصغر الشرر - أقصد صغار المهنة ممن لم يتربوا فى كنف الكبار - وهو الذى ضرب البنية الأساسية لمهنة تضيع تارة بفعل التكنولوجيا، وتارة أخرى بفعل التفاصيل الصغيرة مثل ترديد مقولة "عدم وجود كفاءات حقيقية تستطيع تحمل المسئولية".
وأخيرا: أظن أن الصحافة الورقية كانت عصية على الموت إلى وقت قريب، حين كان لا يزال هناك عدد كبير من الناس ومن ضمنهم أصحاب ألمع العقول البشرية وخيرة المثقفين، الذين تربطهم علاقة عاطفية بالورقة والقلم ولا يمكنهم الاستغناء عن الصحافة المطبوعة والنشر الورقى طيلة حياتهم، إضافة إلى مئات الملايين من القراء الذين لم يكتشفوا بعد العالم الرقمى ولا يتعاملون إلا مع الورق والصحافة الورقية التى لعبت أدورا مهمة فى ترسيخ الهوية والدفاع عن مصر عبر تاريخها الطويل، لكن الوضع الذى خلفته جائحة كورونا أربك المشهد برمته ووضع أسسا جديدة علينا أن نعيها ونبحث فى أسباب تلافيها وإلا علينا أن نكفن الصحافة الورقية ونودعها إلى مثواها الأخير.