الكتابة الأدبية "حالة" من التداعى الفكرى المتفاعل مع وعى مثقف قادر على القبض عليها بالتسجيل "المتميز" بالدفق الشعورى المصاحب لها، والذى يحدث انفصالا مغلوبا على أمره عن عالم الواقع لعالم المتخيل، وبالتالى يأتى الشكل التعبيرى نابيا عن المباشرة والاستسهال فى ارتباطه بمضمونه، فالأدب مثل البلاغة القديمة من حيث أنهما معنيين بالمعنى الثانى (معنى المعنى) الذى ينشأ عن إزاحة المعنى المباشر (المعجمى/ الحدث) فى مثل قولنا "رأيت أسدا"، بشكل يتطلب ذهنا قادرا على الفعل التأويلى النافذ للفكرة المعنوية لا الجسم المادى.. هنا تكمن القيمة الجمالية ـ التى هى أبرز خصائص الأدب والبلاغة معا ـ مقترنة بالقيمة الفكرية.
وإذا كان المقصود من أى عمل ـ ذى قيمة ـ هو خلخلة الواقع وتنبيه أصحابه لمشكلة ما (سياسية أو اجتماعية) تنتقص من كمال الحياة المنشود، فإن الرواية الجديدة قد اكتفت بمجرد تشخيص العلة دون توغل ظلت الرواية التقليدية مصرة عليه، من خلال رؤية فلسفية مفسرة أو أيديولوجية موجهة.
ومصطلح "الرواية التقليدية" يعنى تلك الأعمال التى أنتجها جيل الرواد على نسق الأدب الغربى، بعد خطوة الكتابة التى تحمل مضامين الأدب التعليمى ـ كقصة "علم الدين" لعلى مبارك ـ وذلك عندما أصبح الحكى Narrative سردًا Narration ذا خواص أسلوبية مميزة Stylistic markers، بدءا من ميكائيل دى سرفانتيس Srfanteis / 1547 – 1616) DE M) هناك، ومحمد حسنين هيكل هنا، ثم من تلاهما من كتاب الرواية السيكولوجية، وصولا إلى الرواية الجديدة التى وصفت بأنها ثورة على التقاليد الفنية الكلاسيكية المتبعة، والتى كانت إرهاصاتها قد ظهرت على يد الأديب أندرى جيد (Andre Gide/1869-1951).
وقد ظلت الرواية حتى زمن قريب تتأسس من حدث رئيسى وشخصية محورية/ "بطل"، ليس شرطا أن يكون إنسانا، فقد كان حصانا فى "بيوتى بلاك" للإنجليزية آنا سويل، أو مكانا مثل قاهرة "القاهرة الجديدة" لنجيب محفوظ، أو قيما معنوية كعادات وتقاليد وسيكولوجيات ثلاثيته الشهيرة، أو غير ذلك جميعا، فالشخصية الرئيسة (البطل) هى: ـ كما يعرفها الكاتب والناقد فؤاد قنديل فى كتابه "فن القصة" ـ "كل من يمارس فعلا أو تأثيرا رئيسيا"، يندفع به الحدث للأمام من خلال علاقات جزئية أو أزمات صغرى، فى ذات الوقت الذى يترك فيه هذا الاندفاع ـ بدوره ـ أثرا عليها، لتتطور وتكتمل فى ديناميكية متطردة يتجه بها "المضمون" نحو التمام.
هنا لم يكن العمل الأدبى التقليدى قادرا على تصور أنه بإمكانه التخلى عن "بطل" مكون من "كائن" ورقى، تعتمد عليه غالبية أركانه الحدثية والزمنية، سواء أكان ظهور هذا الكائن/ البطل معتمد على شخصية مؤثرة، أم شخصية أو عدة شخوص عاكسة متأثرة، ففى كل الأحوال سيكون البطل هو نفسه الحكاية.
من هنا لفتت "فرعونية الشخصية الدرامية" ـ كما سماها الناقد حيدر عبد الرضا ـ الانتباه بالتهامها أركان العمل جميعها، فهى تمارس فعل طغيانها على باق الشخوص التى تبدو وكأنها مجرد أثاث فنى مكمل للعمل لا أكثر.
لقد كان هدف الرواية التقليدية دوما هو النجاح فى إحداث أكبر قدر ممكن من التأثير فى ذاكرة القراء بتلمس ما كان يعرف بـ "واقعية القص" ووجود "البطل"، أو الشخصية المحكى عنها، الأمر الذى تغير جذريا فيما يسمى الآن بالرواية الجديدة، والتى لا يهمها إطلاقا تلمس واقعية القص أو العثور على الشخصية المقنعة المتطورة من جوانبها الثلاثة (العضوية والاجتماعية والنفسية)، لقد توارى هذا كله فى النسق الجديد من الكتابة حتى اقترب من العدم ـ وإن لم يدركه ـ فروائى مثل فرانز كافاكا (Franz Kafka.1883–1924) نراه يطبق هذا الاتجاه بشكل مفرط، وصل به إلى حد أن حرم شخوصه من كل شىء حتى التسمية، فأعطاها بدلا منه حرفًا أو رقمًا، ذلك أن الشخوص فى هذا الاتجاه الجديد ما هى إلا "تقنيات سرد”.