يا لكم من ببغاوات تكررون ولا تعقلون ما تكررون! سئمت سماع هذه العبارة "أنتم تصنعون الفرعون، أنتم تصنعون الفرعون!" نعم، مقتنعة أننا نصنع كل شىء نصنع أنفسنا ونصنع أبناءنا ونؤثر فى المحيطين بنا بشكلٍ أو بآخر.
ولا يولد الفرعون "فرعونا"، وكيف يكون! ونحن من ننشئ طفلاً فنضعه فى قصرٍ ونقول له كن ملكًا مطاعًا فيكون أو كن عبدًا مطيعًا فيكون وقد نفرعن شخصًا أو يُسْتَعبد شخصٌ فى أى سنٍ ولكن لابد أن تتوافر للفرعون الإرادة كى يكون وتتوافر للعبد الإرادة كى لا يكون، فهو الذى يختار فى النهاية وتقع عليه المسئولية فى الحالتين هو فاعلٌ ليس مفعولاً به؛ فبصرف النظر عن بعض أفكار چان پول سارتر؛ إلا أنى اتفق مع كلامه فى أن "الوجود يسبق الماهية" وأن "الإنسان مشروعٌ فى ذاته وعليه أن يعمل على تحقيقه"، فالشخص هو الذى يختار ما يريد أن يكون عليه وكيف يريد أن يكون ويأتى كلام چورچ هيجيل فى نفس السياق "الإنسان ما رسم لنفسه فهو يلتزم بهذا الرسم ويعمل فى إطاره ولن يفعل ما كان بإمكانه فعله لو كان هذا الفعل خارج الرسم".
ويظل هكذا الإنسان طيلة حياته فى اختيارات يَكُوُنُها، لا يتوقف عن الاختيار إلا حين يموت، هو مخيرٌ، صاحب قراره فى أن يكون صالحًا أو طالحًا نافعًا أو ضارًا بذلك؛ وكما قال المعتزلة؛ يكون عدلٌ حسابه.
إذا ارتضينا أن نقول إنه لا يولد الفرعون "فرعونا" ويفرعنه الناس أو الظروف، فيكون من التجنى ألا نقول إنه بنفس الفكرة قد يصنع الناس بطلاً أو تصنعه الأحداث وقد يصنع نفسه ويصنع الأحداث التى تجعله بطلاً.
يصنع البطل نفسه اذا أحب دور البطولة، يهيئ نفسه ويعدها لتعيش الإحساس؛ أقصد إحساس البطولة؛ فتعيش فيه البطولة ويعيش فيها، يُنَشِّئ نفسه قادرًا على تحمل دور البطل ويستحضر لنفسه الفكرة ويخلق الحدث ويصنع التاريخ، قد ينجح فى النهاية مثل الإسكندر الأكبر وقورش وخالد بن الوليد وموسى بن نصير وطارق بن زياد وصلاح الدين الأيوبى وغيرهم وقد ينتهى بالفشل مثل هانيبال ونابوليون وهتلر.
وقد تأتى أحداثٌ فى حاجة لبطل، فيقع اختيار الناس على شخصٍ ما؛ لظروف معينة تجعله الأقرب لتصورهم؛ يلتفون حوله ويضعونه فى موضع البطل وقد ينجحوا فى صنعة تمامًا بنفس فكرة صناعة الفرعون وينجح هو فى معايشة البطولة ويحمل الراية بصرف النظر عن النتيجة فقد ينتصر كالمعتصم الذى توسع وفتح عمورية وكمحمد على باشا الذى تتركز بطولته فى أنه نقل مصر نقلة نوعية وحضارية وبنى "مصر حديثة" لما استقر له حكم البلاد بعدما فرغ من كل خصومه وكالسادات بطل الحرب والسلام الذى استطاع أن يعبر الهزيمة ويسترد الأرض والكرامة وقد ينهزم مثل ناصر فى ٦٧! وقد يفشل الناس من الأساس فى أن يصنعوا منه بطلاً أو يفشل هو أن يعيش دور البطولة وينسحب قبل أن يدخل الحلبة مثل الخليفة العباسى الناصر لدين الله الذى حين تقاعس عن دوره راح يسقط على القائد الظافر الناصر صلاح الدين اتهامات الخيانة يستر بها فشله تكرر هذا فى تاريخنا الحديث إذ حاول أناسٌ تنصيب أبطالاً دفعوهم ودعموهم ولكنهم لم يكونوا على مستوى البطولة فحين وصلت للحكم جماعة ظلامية إرهابية وجاء وقت المواجهة فر هؤلاء المزيفون من الموقف الصعب فرارهم من الأسد وخيبوا آمال الناس الذين علقوا عليهم الآمال وولوهم الأدبار، تركوهم وتركوا بلادهم وذهبوا إلى غير رجعة رغم الدفع والدعم بل وأخذوا يسقطون الاتهامات عن بعد على الأبطال الحقيقيين الذين حملوا راية البطولة حماهم الله! وهذا يثبت أن الفشل والنجاح فى دور البطولة مرجعه فى النهاية للأشخاص!
وقد يكون الدافع للبطولة إلهامًا أو هاتفًا مجهولاً فى صورة "حُلْمٍ" مثلا أو علامة معينة تدفعه لتقلد دور البطل، ولأنى طبيبة فأنا أتعامل مع الواقع الملموس لا الميتافيزيقا ولا أفسر الميتافيزيقا والتزم حيالها الصمت كما قال فيتجنشتاين واوجوست كونت، أو كما قال ايمانوييل كانط؛ فيلسوف المثالية الأخلاقية والواجب؛ "لا إمكانية للمعرفة الميتافيزيقية، فالميتافيزيقا موضوع للإيمان الراسخ وليس موضوعًا للمعرفة النظرية فهى لا تدركها العقول البشرية المحدودة بحدود المحسوس"، الأقرب لطبيعتى وقناعاتى أن أتناول فكرة الحلم هذه بعقلى البحثى كظاهرة علمية فالأحلام هى عندى؛ كما فسرها علميًا سيجموند فرويد وأثبتها بالتجربة العملية؛ بعض ما يستقر فى عقلنا الباطن وتكون وليدة الظروفٍ التى نعيشها أو أمنيةٍ نتمناها، وتراود أحلام البطولة من يريد ان يكون بطلاً.
وعادة هؤلاء الذين يحلمون بالبطولة تسيطر عليهم أهدافٌ نبيلة إذ يرى الشخص أن عليه أن يكون بطلاً لمرحلة تستدعى البطولة! كالقائد البابلى نبوخذ نصر الثانى والذى رغم أنه حقق انتصارات عظيمة لم يُفَسَر حلمه أبدًا وقضى فى ذلك الكثيرون، وچان دارك التى بدأت قصتها بحلمٍ نبيل ولكن للأسف انتهت نهايةً بائسة حين اتهمت؛ لأهداف سياسية؛ بالهرطقة وتم إعدامها حرقًا حسب قوانين هذا العصر الدموى الأسود من التاريخ الفرنسى والأوروبى!
أو أن حلمًا يراود أناسًا لا يجدون فى أنفسهم القدرة على تحقيقه فيَنْصَّبُ حلمهم فى "بطل" يدخلون به التجربة قد يكون هذا البطل ابنًا أو صديقًا أو شخصًا مقربًا يُدْخِلون فى نفسه البطولة ويقنعونه بها فيصطنعون بطلاً بالفعل وهذا تمامًا ما حدث مع محمد الفاتح حين ظل معلمه شمس الدين يرسخ فى ذهنه لسنين إنه المعنى فى حديث رسول الله بفتح القسطنطينية حتى قام وحقق الحلم وأظن الرسول (ص) نفسه حين قالها كان أيضًا يصنع بطلاً فى المستقبل يفتح القسطنطينية!
وقد يتكون البطل نتيجة لكل هذه الأسباب مجتمعة حلمه وحلم الناس والظروف ودفع الناس له وتَثْبُت البطولة فعليًا بالأداء.
وعندما يظهر بطل يتغير وجه التاريخ فالأبطال لا نعرفهم إلا عندما يغير وجودهم شكل الحياة. فبالأبطال نشأت الإمبراطوريات والحضارات أغريق ورومان وفرس، عرب مسلمون وصليبيون سلاجقة وتتار وترك عثمانيون، تُصنع الأحداث ويكتب التاريخ ويسجل الأبطال! من الإسكندر ليوليوس قيصر لأوكتافيوس ومن صلاح الدين لريتشارد ومن جان كيز خان وتيمورلينك لقطز وبيبرس ومن ابى يزيد لمحمد الفاتح وقسطنطين لسليم الأول وسليمان القانونى وفرديناند لمحمد على باشا لأنور السادات.
وليست الحروب شرطاً لإظهار البطولة وشرطاً للتغيير رغم انها عادة ؛ بالرغم من تغير أشكالها - أقصد الحروب - بتغير العصر؛ ما تكون، فقد اختلفت صور البطولة بتقدم العصر فليس شرط البطل أن ينتصر فى الحرب بل أصبح البطل فى مجتمعاتنا الحالية؛ وهذا هو الأهم؛ الذى يتخذ قرارات دراماتيكية تحدث تغييرًا تاريخيًا دراماتيكيًا رغم ما فى ذلك من مخاطرة ومواجهات مثل مهاتير محمد والشيخ زايد آل نهيان ولى كوان يو ولولا داسيلڤا فينهض بالبلاد ويحدث الطفرة الفكرية والإجتماعية والسياسية والإقتصادية.
وعادةً لا يأتى الأبطال إلا بعد منتصف ليل بهيمٍ حالك السواد؛ إن شاء الله نكون قد عبرناه؛ ولا نراهم بوضوح إلا مع بزوغ فجر اليوم الجديد بعد أن يميطون أسباب التخلف ويحدثون التغيير فيتجلى لنا التطوير ويظهر الفارق بعد ازاحة الستار الذى اوشكنا ان نشهده بإذن الله.
تختلف الطرق تصعب وتبدو أكثر تعقيدًا ولكن الذين لا يخافون المخاطرة ولا يترددون ويرغبون فى حمل راية "البطولة" ويقدرون على التغيير والتطوير موجودون.