مع كل الصخب الذي يحاصرنا الأن، بما يحتويه من قلق وركود وتشوش، تبقى الموسيقى ملاذاً آمناً للروح وفرصة لنستعيد رجاءاتنا المفقودة، أو ربما لنستعير بعضاً من بهجة تُحيلنا كائنات طبيعية غير ممتنعة عن الفرح.
لنفترض الآن أن زوربا لم يرقص رقصته الشهيرة على شاطيء البحر في الفيلم الذي يحمل اسمه "زوربا اليوناني" (1964) سيناريو وإخراج مايكل كاكويانيس مقتبس عن رواية نيكوس كازانتزاكيس، من بطولة أنتوني كوين، إيرين باباس، آلان بيتس، فماذا سيحدث؟ لنفترض أن أحداث الفيلم لم تنته بالرقصة التي أصبحت واحدة من أيقونات السينما العالمية، وجمعت بين زوربا المحب للحياة، والكاتب المستغرق في الكتب والحائر بثروة والده الطائلة، فهل الفيلم الحائز على أوسكار أفضل ممثلة مساعدة، أفضل ديكور، أفضل تصوير سينمائي، بالإضافة إلى ترشيحات أفضل فيلم، أحسن إخراج، أحسن سيناريو، أحسن ممثل لأنتوني كوين، كان سيخرج من حالته الآسرة، المدهشة، ليتبادل صفة "العادي" مع أفلام أخرى؟ هذا الافتراض ليس شريكاً في لعبة الاحتمالات، لأن النتيجة الأوقع هي أن هناك موسيقى في الفيلم تصدح من زوايا الكون وترسل نغماتها، وأن الموسيقى التصويرية التي وضعها ميكيس ثيودوراكيس إنفردت بشهرة خاصة؛ طغت على شهرة الفيلم ولازالت رقصة أنتوني كوين صوب البحر بلحنها المتموج بين الخفة والثقل تلهب المشاعر حتى الآن، لا أخلع بهذه النتيجة عن الفيلم أهميته شكلاً وموضوعاً، لكني أتابع من أين يأتي الأمل مع رجل قلبه جاهز للحياة، يقتفي إيقاع الموسيقى ويطلق العنان لساقيه؛ بل جسده كله ليصعد وينزل، يُسرع ويُبطيء، يسمع ويبصر، يهمس ويصرخ، صوفي وحسي في الوقت ذاته، الموسيقى وحيه وحظه؛ في قلبه مس سماوي وفي عينيه أفق أوسع من الكون يفيض بالوجع والفرح والعبث، خليط مجنون نقلته موسيقى ميكيس ثيودوراكيس والدق على آلة السنتوري؛ هذه الآلة الوترية المحببة لزوربا ولليونانيين بصفة عامة والتي تُشبه آلة القانون حتى في التشابك بينهما في النشأة والأصول الشرقية، حسبما يحاول بعض مؤرخي الموسيقى إثباته، غير أن العزف على السنتوري يكون بعصوين من الخشب، كأنه يريد التعبير عن صخب الحياة بصوت أعلى، وهذا ما كان يفعله زوربا يلعب مع الحياة ويمنح قلبه الجريح فرصة ليعيش بحظ الطير الحر، من خلال موسيقى هي صدى جرحه وجموحه ورقته، إنه ليس بسيطاً كما يبدو؛ إنما هو تلخيص للأسئلة الفلسفية العميقة، أدرك أن الحياة أكثر تعقيداً مما تحكي عنه الكتب، وأن فيها من العبث ما يجب أن يواجهه بالرقص والغناء والموسيقى، وهذا ما جعل الفيلم حتى هذه اللحظة يبقى محرضاً لمشاهديه على الرقص والتحرر من الهواجس والقيود والخوف كي تبقى الروح عنيدة.
رجل في الستين من عمره، مغامر، جرئ، متمرد، غاضب، مرح، حنون، عذب، نقي، جعل موسيقى ثيودوراكيس في الفيلم كلحن بصري، كل شيء فيه مرئ وممكن وربما أخف، معادلة الجسد تصبح خارج نطاق التكوين العادي، هنا ومع هذه الشخصية تتسع التفاصيل إلى فضاء أكبر، ثمّة ما هو أعمق من مجرد الاستجابة لنغمات موسيقية، إنه ارتطام الجسد بخلاء العالم وفراغه وقسوته فيما يشبه حلبة المصارعة، والصراع هنا داخلي يصنع إيقاع الحركات الخارجية بطريقة لافتة تعزز الملمح الرومانسي، لا أتحدث عن تقنية الرقص؛ وإنما عن هذا التجاذب الذي يصنعه ممثل محترف مثل "أنتوني كوين" لنراه لقطة وراء لقطة كمن يفتح ممرات ليدخل الهواء ثم يخرج منها حراً، تظهر هذه الرهافة بوضوح مؤثر في مشهد النهاية؛ كما لو كان يدور خلف كواليس العالم الضائع، رجلان بعد أن خربت أحلامهما؛ "زوربا" و"باسيل" يختطفان لحظات يتوق لها الجسد بعيداً عن الإحباط والرتابة، أحدهما أراد الهروب من العادي، والآخر مزاجي لا يأتلف سوى مع حسه بالمدى والجمال، والاثنان يبحثان عن نقطة ثابتة داخلية للتعلق بها، كل حركة قاما بها مهدت لنقلة أخرى أوسع من مدارك الجسد، من اليد لامتداد الذراع ووضع اليد على كتف الآخر ودبة الساق والقدم على الأرض بشكل متزامن وفي وقت واحد، ثم حركة الأرجل التبادلية، حكاية بدأت بفكرة بسيطة وتلقائية لتتحول إلى مشهد رائع وخاطف للأنفاس، تكتمل به حالة فيلم يُحقق نصره بالحياة التي يشتهيها.
اسمها رقصة "سيرتاكي" صممها "يورجوس بروفياس" للفيلم بمصاحبة موسيقى ثيودوراكيس، تبدأ بطيئة وهادئة؛ ثم يبدأ التسريع في اللحن والحركات ليقفز معها الراقص أكثر فأكثر، بناء هارموني واضح بين الحركة والنغم، وبعد نجاح الفيلم أصبحت هذه الرقصة من أبرز المعالم الفنية في القومية اليونانية، ورمزاً لثقافتها وفولكلورها، فتعبر عن الأحزان والأفراح، اليأس والتفاؤل، المشاعر الإنسانية بكل تناقضاتها، بل تحول الأمر فيما بعد من مجرد رقصة في فيلم إلى باليه يُعرض على مسارح الأوبرا ليحكي عن "زوربا" المشاكس، الواثق من رغباته واندفاعه المولع بالحياة الراهنة، وانفلاته من الماضي وخيباته ومن شيخوخة يرفضها إلى عنفوان يحتفي بالموسيقى والرقص وبهجات شابة تحرره من أثقال الزمن، هذه الروح الوثابة لدى زوربا طلعت من أبعاد مقطوعة موسيقية كالبرق؛ لم تمر عابراً، وإنما امتثلت لها الموسيقى اليونانية، فصارت إحدى علاماتها الاسترشادية ولها شعبيتها الجارفة عالمياً، كما لمؤلفها ميكيس تيودوراكيس دوره في تطوير الموسيقي اليونانية، أكثر من 1000 أغنية 30 عملاً سيمفونيًا، 5 أعمال أوبرا، نحو عشرين لحناً لمسرحيات منوعة، بالإضافة إلي الموسيقى التصويرية لإثنين وعشرين فيلماً يونانياً وأجنبياً، منها: خمسة افلام للمخرج اليوناني مايكل كاكويانس هي: إلكترا، زوربا، يوم طفا السمك ميتاً، نساء طروادة، يفيجينيا، فيلما المخرج كوستا-جافراس؛ زد و حالة حصار، هذا غير تعاونه المخرجين البريطانيين مايكل باول وديفيد ايدي، والفرنسيين جول داسان وريمون رولو، والأمريكيين اناتولي ليتفاك و سيدني لوميت وغيرهم.
من موسيقى تصويرية لفيلم صارت "زوربا" هاجساً إبداعياً لدى آخرين، كما في الفيلم الاسكوتلندي "بيلي وزوربا"، وصدحت بها أيضاً مسارح برودواي في نيويورك، لتكون صوتاً جريئاً يتسع به المدى ويهتدي به الآخرين، صوت يشبه واضع الموسيقى ومؤلفها ميكيس ثيودوراكيس، لم يكن فقط واحداً من أكبر موسيقيي القرن العشرين؛ لكن لديه أيضاً تاريخ طويل في العمل السياسي والنضالي، هو الملحن والمغني والسياسي ومساند القضايا الإنسانية، فكانت مواقفه عنيفة ضد حرب فيتنام والحرب على العراق والممارسات الاسرائيلية الوحشية ضد الشعب الفلسطيني، لازالت صورته الشهيرة بالكوفية الفلسطينية في الأذهان، كذلك مواجهته مع رئيس الوزراء اليوناني جورج باباندريو رافضاً سياسة التقارب مع نتانياهو، فيما صرح أن اليهود الأمريكيين مسئولون عن الأزمات الاقتصادية في العالم، والتي أصابت اليونان أيضاً، بل تماست بعض مؤلفاته مع مواقفه السياسية، فقدم مثلاً ترنيمة جمال عبد الناصر يوم وفاته عام 1970 وترنيمة أخرى لمنظمة التحرير الفلسطينية أيام حصار بيروت 1982. توازى عمله الفني مع السياسي؛ فانتخب عضواً في البرلمان في منتصف الستينيات مدة سبعة عشر عاماً، رفض اقتراح الكتل النيابية الوطنية ترشيحه لمنصب الرئاسة، لكنه انتخب رئيساً للبرلمان في دورتين وكان وزيراً للثقافة عام 1990، نشاطه السياسي الموازي بدأ منذ زمن الحرب الأهلية اليونانية حيث اعتقل ونفي إلى جزيرة نائية، وتعرض للتعذيب ودفن في التراب حياً مرتين، وبعد الإفراج عنه أكمل دراسة الموسيقى، اسمه في أهم المهرجانات الموسيقية العالمية، وحصوله على عدد كبير من الجوائز، أنقذه حين اعتقل عقب انقلاب الجنرالات في اليونان، إذ تشكلت لجنة عالمية من كبار الشخصيات العالمية للدفاع عنه، كان من بينهم آرثر ميلر وفيلي براندت وأولاف بالمه وشيستاكوفيش، تم الإفراج عنه شرط أن يعيش في الخارج، فسافر إلى باريس وظل فيها أربع سنوات، ثم عاد بعد سقوط نظام الجنرالات عام 1974 إلى وطنه وكثف نشاطاته الفنية في الداخل والخارج، إلى جانب حراكه الاجتماعي والإنساني والسياسي.
هذه التفاصيل تدنو من شخصية فنان ينسج أعماله من واقعه وقناعاته ببشريته وحقه في الحصول على حياة على مقاس أحلامه، كما شخصية زوربا في الفيلم التي تشبهه وإن لم يكن هو كاتبها؛ لكنه تلاقى مع نص رواية نيكوس كازانتزاكيس الضالع بتأويل الحياة بين ثنائية: السكون والصخب، يقول زوربا للشاب باسيل الذي يلتقيه مصادفة: إني أقدرك كثيراً يا سيدي إلى درجة أني لا أستطيع أن أكتم ما علي قوله، لديك كل ما يحتاجه الإنسان ما عدا شيء واحد: الجنون! يحتاج الإنسان إلى قليل من الجنون وإلا...
باسيل: وإلا ماذا؟!
زوربا: لن يتجرأ أبداً أن يقطع الحبل الذي يقيده... ويتحرر!
الحكمة التي يلقيها زوربا في وجه الشاب المنظم الذي لا يعرف عن الحياة أكثر مما يقرؤه في كتبه، تغلف حوار الفيلم عموماً وتبدأ الحكاية في ميناء وسط أجواء عاصفة ومطر شديد، حيث يلتقي زوربا البسيط غير المتعلم بـ"باسيل" شاب نصفه إنجليزي ونصفه الآخر يوناني، نشأ في بريطانيا، ورث أموالاً من والده، وقرر أن يعود إلى بلده حيث يمتلك والده يملك بضعة أراضي ليفتح منجماً للفحم الحجري، يطلب منه زوربا مساعدته في المشروع ويقنعه بذلك ثم يبدأ في منادته "يا رئيس"، وتبدأ رحلتهما المتوجة بعدد من المفارقات بسبب اختلاف شخصيتهما وكذلك بسبب طبيعة الجرية النائية في الجزيرة التي يذهبان إليها، يهوى زوربا الرقص ويفتتن باسيل برقصاته، تتوالى الأحداث لتشمل العجوز صاحبة الفندق الذي لا يقطنه أحد في القرية، والفتى العاشق للأرملة الشابة التي ترفض الزواج ثم تقيم علاقة مع باسيل الذي تردد خجلاً في البداية وتشجع بعد ذلك بتحفيز من زوربا:"يا رئيس، الحياة هي مشكلة، أما الموت ليس كذلك، لكي تكون على قيد الحياة يجب إن تفك حزامك وتبحث عن المشاكل"، ينتحر الفتى العاشق وتٌقتل الأرملة الشابة ويفشل مشروع نقل الأخشاب عبر الوادي وتنهار أحلام زوربا، لكنه لا يسقط؛ بل يسخر من كل شيء ويدعو باسيل إلى الشراب وتناول اللحم المشوي على شاطيء البحر، يخرج باسيل عن إطاره الملتزم ويقول له:
زوربا هل علمتني الرقص..؟
زوربا: هل قلت الرقص..؟
تعال يا ولدي لنرقص معاً …
ثم تنه رقصتهما الفيلم لتحرز هدفها في التحرر الإنساني من عبء الجمود، فالرقص والموسيقى هنا هي اختصار للحالة العطشى إلى الإلهام، وتأكيد أن الحياة مجرد رقصة ترمم العواطف المكسورة.