قدَّر الله سبحانه وتعالى لمصر، موقعا فى قلب أكثر مناطق العالم حراكا عبر التاريخ، ولم يكن القدر الإلهى مقتصرا على كون مصر مسرحا لتلك الأحداث المشتعلة فحسب، بل كانت محورا لها ولاعبا رئيسيّا فيها.
لذلك لم يكن غريبا، والعالم يمر بأعنف موجات الإرهاب على الإطلاق، أن تتطلع الأنظار وتتطاول الأعناق إلى مصر، منتظرين أن تخوض جولة جديدة من جولاتها الحاسمة فى مواجهة هذا الداء العالمى.
لقد كانت مصر على الموعد دائما، فى معركتها التاريخية ضد قوى التطرف، فصاغت استراتيجيتها الوطنية الخاصة، مدركة حجم التحدى والتهديد الذى تمثله قوى الإرهاب على الحضارة الإنسانية عموما.
إن الرؤية المصرية للإرهاب تقوم على اعتقادٍ جازم بضرورة المواجهة الشاملة على الأصعدة كافة، وأن الصعيدين الأمنى والأيدلوجى يمثلان أهم محاور الاستراتيجيات الفعالة فى مكافحة الإرهاب، ولذلك فإن الرؤية المصرية لم تتأثر بالمغالطة التى تم الترويج لها، وسار عليها عددٌ من الأكاديميين، من أن الاستراتيجية المصرية تعتمد الخيار العسكرى والأمنى فقط، فى مقابل استراتيجيات أكثر «تقدما» تعتمد الخيار السياسى ثم الاقتصادى كمحورٍ لاستراتيجيات المكافحة، على اعتبار أن الأسباب الرئيسية لظاهرة الإرهاب تبرز من السخط السياسى والاجتماعى.
والحقيقة أن الرؤية المصرية لمكافحة الإرهاب، كان لها الحظ الأوفر من حيث قراءة الواقع وتحليله، واستشراف مستقبل الحرب على الإرهاب، وقد ثبت خطأ النظريات التى حاولت تفسير ظاهرة الإرهاب من خلال الدافع السياسى والاجتماعى فقط، ومن ثَمَّ صياغة استراتيجيات المكافحة بناء على ذلك، وتكفى فى خطأ تلك النظريات قراءةٌ سريعةٌ فى التقارير التى رصدت عدد المقاتلين الأجانب فى صفوف المنظمات الإرهابية فى السنوات الأخيرة، وعدد المقاتلين الوافدين من دولٍ أوروبية ومن الولايات المتحدة الأمريكية، والذين لم يتعرضوا للضغوط الاجتماعية أو لممارسة أىٍّ من أنواع الضغط أو التهميش السياسى.
تلك الرؤية الثاقبة، هى ما جعلت العديد من الدول، ترى ضرورة الشراكة المصرية فى عملية مكافحة الإرهاب، خاصة أن الدولة المصرية رفضت تماما أن تكون الاعتبارات السياسية عائقا أمام مواجهة الإرهاب، وراهنت على انهيار الاستراتيجيات القائمة على مراعاة تلك الاعتبارات، وقد ظهر صدق الرؤية المصرية أخيرا، وتبينت مآلات مراعاة الاعتبارات السياسية التى ظهرت تداعياتها فى صور الدعم المباشر وغير المباشر، والتى تلقته بعض الجماعات الإرهابية من حكومات وقوى، ما زاد من قوة تلك الجماعات وقدراتها القتالية والإعلامية، وأضعف من الموقف الدولى بشكلٍ عامٍّ فى مواجهة تلك الجماعات، ما أخرجها عن نطاق التحكم والسيطرة بشكل كلى، وهو ما زاد من ثقة المجتمع الدولى فى التجربة المصرية، وفى رؤيتها وقراراتها الحاسمة بشأن المواجهة مع الإرهاب.
إن مصر علمت، منذ البداية، أن المواجهة مع الإرهاب حربٌ طويلة المدى، وأن هناك العديد من المعارك الكبرى التى يجب الانتصار فيها لتحقيق الهزيمة الشاملة والاستئصال الكامل لقوى الإرهاب، ولا شك أن معركة الإصلاح الاجتماعى والسياسى، إحدى تلك المعارك الكبرى التى من شأنها الإسهام فى تقليل النوافذ المحتملة لانتشار التطرف، إلا أن الملف الاقتصادى والسياسى يجب ألا يُقتَصَر عليه، وألا يؤدى إلى إهمال المعركة الأيدلوجية والمواجهة الأمنية، وكلتاهما لها أهميتها البالغة فى حسم الصراع، ولذلك لم تتخذ مصر موقفا رماديّا فى قبول الجماعات المتطرفة والإرهابية، ورفضت بشكلٍ قاطعٍ الخضوعَ للضغوط المتوالية لقَبول بعض الجماعات ذات الفكر المتطرف لكونهم لا يُعلنون بشكلٍ مباشرٍ عن قيامهم بعملٍ إرهابى، ورأت أن المواجهة الشاملة الفعالة مع قوى الإرهاب لا بد أن تكون أكثر حزما وأقل تهاونا مع الجماعات المتطرفة بكل أنواعها.
كما أن الرؤية المصرية أولت للجانب الأيدلوجى اهتماما كبيرا، بوصفه جوهر الظاهرة والمسبب الرئيسى لها، وأن الفهم المغلوط للدين الإسلامى وانتشار المفاهيم المنحرفة هو المحرك الأبرز لظاهرة التطرف، ولذلك دفعت مصر فى ذلك الاتجاه بكامل قوتها بواسطة مؤسساتها الدينية، فعملت تلك المؤسسات على وضع خططٍ وبرامج متعددة لمكافحة التطرف، وكان لدار الإفتاء المصرية دور بارز فى هذا الصدد، فاستطاعت، فى فترة وجيزة جدّا، العمل فى شراكة مع الأصوات المعتدلة فى المجتمع الدولى، وفتح جسورٍ وقنواتٍ للتواصل فى الشأن الإسلامى، وتعزيز نشر قيم التسامح والعدل والمحبة والإخاء، مع الوقوف أمام انتشار الفكر الإرهابى والمتطرف.
إن النجاح الذى حققته الدولة المصرية فيما مضى، وما زالت تحققه على مستوى مكافحة الإرهاب والتطرف ليُعطى مصداقية ودعما مستمرّا ومتزايدا للرؤية المصرية لظاهرة التطرف، ويعكس مدى نجاعة الأدوات المصرية المستخدمة فى هذا الشأن، ويُثبت يوما بعد يوم صدق استشراف مصر لمستقبل عمل الجماعات وتطورها وانتشارها، ودقة النظرة المابعدية للقيادة المصرية إزاء تلك الظاهرة، وما يمكن أن تشكله من أخطار على المجتمع الدولى بشكل عام، وهو ما يفسر الترقب المستمر من العالم للخطوات المصرية، والدور المصرى، فى معركة القضاء على الإرهاب والتطرف.