الباحث فى صفحات التاريخ يدرك بوضوح - وبأسف شديد فى الوقت ذاته - أن لغة الحوار والتفاهم هى الخيار الذى طالما يأتى متأخرا جدا عن محله؛ فدائما نرى الحروب تضرى حتى تثخن أطرافها، وتأخذهم بويلاتها، ومن ثم يعرفون أن هناك سبيلا آخر غير لغة الصدام والدم، وكم من فتن وحروب كان بالإمكان إخمادها فى مهدها لو أعطى المتخاصمون فيها فرصة لعقولهم، وجلسوا للحوار والتفاهم وتقريب وجهات النظر.
لقد مرت العلاقة بين الشرق والغرب بمزالق وإحباطات متوالية، وكان ذلك نتيجة للصدام المستمر، مما زاد الهوة بين طرفى المعادلة، وأنتج مجموعة كبيرة من المفردات والتراكيب القاتمة، نحو «الصدام الحضارى»، و«الإرهاب الإسلامى» و«المؤامرات الصليبية» ونحو ذلك من إفرازات ذلك الصدام التى زادت من صلابة الحاجز بين الشرق والغرب، وحالت دون مساعى الحوار والتفاهم الحضارى حول المشتركات الإنسانية.
ويمكن لنا أن نجزم أن ذلك الوضع القلق الذى أنتج مفاهيم من تلك النوعية يعود لأحد أمرين: الأمر الأول هو سوء التفاهم والتقدير الخاطئ للآخر، والأمر الثانى هو المزايدات المقصودة من تيارات فكرية وسياسية تقتات على ذلك الصراع لتحقيق أجندات خاصة.
أما الأمر الأول فمرده إلى مجموعة من الأخطاء المركبة حول إدراك الذات، وإدراك العلاقة مع الآخر، وما يجب أن تكون عليه؛ فإن نظرة الريبة والتشكك ومجموعة الأحكام المسبقة المستقرة لدى كل من الغرب والشرق تقف عائقا أمام الحوار الحضارى البناء؛ فالغرب ينظر إلى الشرق العربى والإسلامى على أنه مصدر تهديد دائم، وأنه مهد «الأصولية» التى تشكلت فى سياقها حركات التطرف والإرهاب، والشرق ينظر إلى الغرب النظرة ذاتها، وأنه حاول استلاب الهوية الإسلامية والشرقية، وإحلالها بالثقافة الغربية، وأنه يسعى دوما إلى تثبيط كل محاولات النهضة الحضارية الإسلامية، وقد ترجم ذلك إلى حركة الاستعمار الواسعة فى القرنين الأخيرين.
وإذا أضفنا إلى ذلك التقدير الخاطئ للذات، والذى يدفع كلا منهما إلى الإحساس بالتفوق والتميز العرقى، ذلك الإحساس الذى يأباه الإسلام كغيره من الأديان والثقافات، ندرك حجم العوائق النفسية بين المعسكرين.
وسوء الفهم والتقدير الخاطئ قد يتطرق لمفهوم الحوار الحضارى نفسه، فالبعض يعتقد خطأ أن الحوار الحضارى بين الشرق والغرب عبارة عن محاولات إقناعية تنتهى فى نهاية الأمر بانصياع أحد الطرفين لمنظومة الآخر الثقافية والدينية، وهو ما ينتقل بالحوار الحضارى من كونه أداة للتقريب والتفتيش عن المشترك لأداة للتفريق والجدال الذى لا طائل منه.
أما الأمر الثانى الذى يقف حائلا بين الحوار الحضارى بين المشرق والمغرب، فهو المزايدات الفارغة التى تطلقها العديد من التيارات الفكرية والسياسية والدينية، والتى تحاول تصدير الصراع والصدام وتغذيته بشكل مستمر، وذلك لأن ديمومة الصراع من شأنها أن تؤمن لهم مجالا للمزايدة وتصدر المشهد والدعوة لأفكارهم وتوسيع قواعدهم، فعلى سبيل المثال استغلت جماعة الإخوان المسلمين القضية الفلسطينية على مدار عقود، تروج فيها الجماعة لجهادهم المقدس بدعوى نصرة القضية، وتلقى الاتهامات على جميع الخصوم السياسيين لها بتهمة المساهمة فى ضياع القدس والتقصير فى حق القضية، وتؤجج مشاعر العداء والخصومة مع الغرب جملة واحدة لكونهم - فى رؤيتهم - الداعمين لمشروع الاحتلال، وهكذا ألقت الجماعة شباكها مستغلة المزايدة على قضية الأمة المركزية لتحقيق أكبر مكاسب ممكنة، على أننا لو تتبعنا تاريخ الجماعة سواء فى مصر أو غيرها فلن نجد أى تحركات حقيقية ضد المحتلين لأوطاننا؛ بل على العكس تماما، فقد تساهلت قوات الإنجليز إبان احتلالها لمصر مع جماعة الإخوان لما رأته من عدم خطورة مشروعهم على التواجد الاستعمارى، بل رأت أن مشروعهم المصادم لوحدة الوطن يساعد على إحكام القبضة الاستعمارية، ما دفعهم للتساهل مع تحركاتهم.
إن مزايدة جماعة الإخوان وغيرها من الجماعات المتطرفة إسلامية كانت أو مسيحية أو يهودية على الأزمات المتعاقبة تكشف أن العدو الأول للجماعات المتطرفة هو الحوار الحضارى، وأن تلك الأصوات التى يقطر منها الدم لا يمكن أن ينتظر من ورائها الخير والسلام والتعايش بحال من الأحوال.
إن الحوار المثمر بين الشرق والغرب يجب أن يترفع عن المزايدات الفارغة، وأن يحلق بعيدا عن سوء الفهم والإدراك الخاطئ، وأن يسعى دائما لترسيخ القيم الإنسانية المشتركة، ويكرس لاحترام الخصوصيات الثقافية والدينية، ويدفع فى اتجاه التفاعل والتعاون عوضا عن التصادم والتقاتل، وقد رأينا مؤخرا مائدة باريس الراقية، وهى تستضيف حوارا حضاريا بارزا بين الشرق والغرب، أعطى فيه طرفا الحوار، الرئيس المصرى عبدالفتاح السيسى والرئيس الفرنسى ماكرون، مثالا حقيقيا لما يجب أن يكون عليه الحوار الحضارى المنتج، وأن الشرق والغرب لا يسيران فى طريقين متعارضين، بل إن تجسير العلاقة بين طرفى المعادلة أمر ممكن، وأن نقاط التقاطع بين الشرق والغرب كثيرة، بشرط أن يكون الحوار قائما على تعظيم المشتركات الثقافية والحضارية، وعلى أهمية احترام المقدسات وكفالة الحريات التى لا تعتدى عليها.
لقد كان الرئيس السيسى سفيرا عن الشرق فى الحوار الحضارى بينه وبين الغرب فى باريس، وأكد فى ذلك الحوار على معان إيجابية رفيعة، استطاع من خلالها أن يغير من تلك النظرة المتشائمة تجاه الحوار بين الشرق والغرب، وأن يثبت أن لغة الحوار ما زالت هى مطلب الكثير من العقلاء، وأن العالم قد سئم صوت الصدام والكراهية، وأنه يتطلع إلى سيادة صوت السلام والتعايش والأمن.