الأرقام لغة سهلة، ندركها جميعاً ونعرف أبعادها ومدلولها، ولا نحتاج فطنة خاصة أو مهارة مميزة للتعامل معها، والحكمة الشائعة تقول:" لا يمكنك إدارة ما لا تستطع قياسه"، تعظيما لقيمة الأرقام، إلا أنه يجب النظر إليها بمنطق أبعد من الرصد والمعادلات الحسابية الصامتة، إلى التحليل والمقارنة الجادة، التى تخرج بنا إلى حلول لمشكلات وقضايا نعانى منها.
فى مصر ننتج آلاف بل ملايين الأرقام، ولدينا جهاز كبير "الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء"، يعمل فيه المئات من المتخصصين والخبراء، دورهم جمع وإنتاج الأرقام، لتكون دليلاً ومرشدا لصانع القرار، وموجها محايدا لما نحتاجه خلال المستقبل وما تجاوزنا من مشكلات الماضي، إلا أن أهم ما تابعته خلال الفترة الماضية يشي بأن بيانات الجهاز يتم تهميشها فى وسائل الإعلام، لحصرها فى خبرين أساسيين، الأول حول معدلات الزواج والطلاق والعنوسة، والآخر عن معدلات التضخم، وإن كانت مؤشرات مهمة وحيوية، إلا أن الجهاز ينتج آلاف الإحصائيات الهامة، التى نحتاج إلى تحليلها وتتبعها بصورة تكفل حُسن اتخاذ القرار، دون أهواء أو عشوائية.
الأرقام فى قطاع الإسكان والنشاط العقارى، قضية تشغل المواطن وصانع القرارعلى حد سواء، خاصة أن هذه السوق تُدار بطريقة متشابكة ومعقدة، فالحكومة تعمل فى مجال الإنشاء والتجهيز للوحدات السكنية، ممثلة فى وزارة الإسكان، وكذالك هيئة الأوقاف، التي تملكها وزارة الأوقاف، بالإضافة إلى عدد من الشركات العامة المملوكة للدولة، إلى جانب مئات الشركات الخاصة والمطورين العقاريين، ثم صغار المقاولين والأفراد، لذلك كان مهما أن نبحث فى أرقام جهاز الإحصاء فى قطاع الإسكان والعقارات، لنصل إلى نتيجة يمكننا من خلالها أن نرى مستقبل هذا القطاع بصورة أفضل.
واحدة من الحقائق المهمة التى كشفتها بيانات جهاز الإحصاء أن القطاع العقارى فى مصر شهد نشاطاً كبيرا فى الفترة من 2006 حتى 2017، وزادت المبانى بكل أنواعها سواء سكنية أو عمل أو مراكز تجارية، بنسبة 45٪، ووصل عددها إلى 16.1 مليون مبنى، منها 14.2 مليون " سكني"، بإجمالى 42.9 مليون وحدة متنوعة الغرض، الشقق منها تحتل رقم 29.4 مليون، منهم 17.4 مليون وحدة مسكونة فعلياً، بينما أكثر من مليون وحدة مغلقة لوجود أصحابها في الخارج و2.4 مليون وحدة مغلقة لوجود سكن آخر.
بعد هذه المجموعة البسيطة من الأرقام يمكننا بقراءة بسيطة إدراك واقع السوق العقارى فى مصر، التى أولها أنه يعانى تخمة كبيرة نتيجة فائض المعروض فى ظل وجود ملايين الشقق والمنازل المغلقة، بالإضافة إلى المدن الجديدة، التي استثمرت الشركات العقارية بها المليارات دون أن يكون لديها خطة واضحة مبنية على العرض والطلب وحجم المتاح في السوق، فالكل يسعى خلف المكسب السريع دون أن يضع أبعاد وأطر لذلك، وهذا ما ستدفع ثمنه ركودا وتراجعا خلال سنوات مقبلة.
مشكلة القطاع العقارى فى مصر متعددة الأبعاد، فالحكومة من خلال وزارة الإسكان مازالت تقوم بدور التاجر وتدفع الأسعار دائما نحو الزيادة دون قراءة الأرقام أو احتساب المخاطر المرتبطة بالفقاعة العقارية والركود الممتد نتيجة ضخامة المعروض، وكذلك الشركات الكبرى فى القطاع العقارى، التى تضع نفسها فى فئة " مطور عقارى" وتقدم وحدات سكنية تحاكى الموجودة فى أوروبا وأمريكا، وبأسعار تقترب منها، لدرجة أن بعضهم يبيع المتر المربع فى الشيخ زايد بـ 40 ألف جنيه، والمشترى يطمح فى البيع بسعر أعلى!