الأحداث السياسية التى مرت بها مصر منذ 25 يناير 2011 وحتى يونيو 2014 - انتخاب الرئيس السيسى رئيسا لمصر-، مرورًا بثورة 30 يونيو 2013 ستبقى لسنوات طوال مقبلة مثار اهتمام مراكز الأبحاث والدراسات السياسية العالمية والإقليمية والمحلية، ومحل اهتمام أيضًا لدوائر السياسة والأمن الرسمية فى العالم والخبراء والمتخصصين.
فالأحداث درامية واستثنائية ونتائجها لم تؤثر فقط فى الواقع السياسى المصرى وإنما فى المحيط السياسى الإقليمى والدولى وتسببت فى تغيير معادلات وحسابات استراتيجية كثيرة وفى إرباك مخططات وأحلام وأوهام لدول وإمبراطوريات.. وما زالت تلك النتائج تلقى بظلالها على السياسة الدولية وصناع القرار فى عواصم عالمية وإقليمية.
السياسة لم تكن الوحيدة فقط الحاضرة فى أحداث تلك المرحلة الانتقالية الحرجة فى تاريخ مصر من يناير 2011 وحتى يونيو 2014.. فالإعلام كان له دور لافت فى الأحداث والصراع فى ظل الاستقطاب الإعلامى بين الأطراف المختلفة التى كانت تتنافس على السلطة أو التأثير فى الفعل السياسى والشارع المصرى الثائر فى ذلك الوقت.
التطور السريع والثورة التكنولوجية المتسارعة ساهمت وبفعالية كبيرة فى تصدر الصحافة الإلكترونية للمشهد الإعلامى خلال السنوات الثلاث الحرجة فى تاريخ مصر السياسى.
فهل كان للصحافة الإلكترونية فعل دور فى تحريك الأحداث وإدارة الصراع وبناء السلم المجتمعى فى مصر؟
هذا السؤال -الغاية فى الحساسية والأهمية - حاولت رسالة دكتوراه فى كلية الإعلام جامعة القاهرة مؤخرًا للباحثة رحاب طلعت سلام للحصول على درجة الدكتوراه الإجابة عليه.
أهمية الرسالة أنها الأولى من نوعها التى تتناول قضية "دور الصحافة الإلكترونية المصرية فى إدارة الصراع وبناء السلام"، وهى قضية شائكة للغاية فى فترة انتقالية حرجة فى تاريخ مصر ما زالت أحداثها بتفاصيلها حاضرة فى أذهان المصريين.. وتطور هذا الاستقطاب فى السنوات الثلاث التى أعقبت ثورة يناير، لدرجة أن البعض اعتبر أن النسيج الاجتماعى والثقافى المصرى أصبح يواجه تحديًا كبيرًا لم يتعرض له على مدى تاريخه؛ فحالة الاستقطاب الشديد كانت واضحة وعكست خطورة النزعة الطائفية والسياسية والاجتماعية فى مصر وخاصة مع اقتناص الإخوان للسلطة.
الباحثة الدكتورة رحاب قامت بتحليل كافة الأحداث التى شهدها هذه الفترة فى بوابات أربع صحف إلكترونية مصرية هى "انفراد والأخبار والوفد والحرية والعدالة".
والرسالة هى أول دراسة من نوعها باللغة العربية تتناول مفهوم "صحافة السلام" الذى يمثل مدخلاً جديدًا للإعلاميين يمُكنهم من البحث فى الأسباب البنائية والثقافية للصراع، ومدى تأثيره على حياة المواطنين وتقديم المضمون الذى يعكس القواسم المشتركة بين أطراف الصراع كافة فى مجتمع معين وطرح مقترحات ومبادرات لتخفيف حدة هذا الصراع.
وطبقت الباحثة بتطبيق مبادئ نموذج صحافة السلام الذى يرى أن للصحافة دورًا مهما فى بناء السلم المجتمعى والحفاظ على تماسك الأمة والدولة وفقًا لثوابت وأسس متوافق عليها، وينطلق من قدرة وسائل الإعلام على تضييق الخلافات بين أطراف الصراع ومحاولة التركيز على القواسم المشتركة بين هذه الأطراف.
المفارقة أن باحثى صحافة السلام الغربيين يعتبرون أن من الأسس النظرية لهذه النموذج ما قام به الرسول محمد (ص) عندما استطاع حل مشكلة وضع الحجر الأسود فى مكانه بالكعبة المشرفة عند الانتهاء من بنائها بمشاركة كافة قبائل قريش، ووقف صراع عنيف كاد أن يحدث بينهم، واعتبر ذلك مثالا لأسس حل الصراعات بمشاركة كل الأطراف.
ويفرق هذا النموذج بين مفهومين هما الصراع والعنف، فالصراع لا يحمل معانى سلبية على الدوام وإنما قد يعكس درجة من التنافس المقبول بين أطراف الصراع للوصول لتحقيق المصلحة العامة، وهذا النوع من الصراع لا ينتج عنه أى عنف، أما مفهوم العنف فيشير إلى استخدام القوة لتحقيق الأهداف. وقد يكون العنف مباشرًا من خلال إلحاق الأذى بالآخرين، أو عنف غير مباشر من خلال تشويه أفكارهم ومعتقداتهم.
واستهدفت الرسالة تحديد الكيفية التى عالجت بها الصحافة الإلكترونية قضية الصراع السياسى والثقافى فى مصر خلال هذه الفترة، وتحديدًا الكيفية التى قدمت بها الصحافة الإلكترونية أطراف الصراع، والتعرف على طبيعة اللغة المستخدمة فى التغطية الصحفية للفترة، والتعرف على مدى التباين فى تبنى الصحف الإلكترونية المختلفة لمبادئ نموذج صحافة السلام.
الدراسة توصلت إلى بعض النتائج التى قد تتفق أو تخلف معها لكنها تفتح باب النقاش والجدل حولها.
رأت الرسالة أن الصحف الإلكترونية المصرية فى معالجتها لأحداث الفترة الانتقالية من يناير 2011 إلى يونيو 2014، كانت بوجه عام تقترب أكثر من مبادئ صحافة الصراع على حساب صحافة السلام، وكان هناك تباين واضح بين هذه الصحف فى تطبيق مبادئ نموذج صحافة السلام، فكانت بوابات انفراد والأخبار والوفد هى الأقرب لتطبيق هذه المبادئ على الترتيب، فى حين كانت بوابة الحرية والعدالة تميل بشكل واضح إلى نموذج صحافة الصراع.
فى النهاية قدمت الرسالة مجموعة من التوصيات من أهمها: أهمية وجود استراتيجية واضحة لقطاع الإعلام على المستوى الوطنى تحدد المبادئ العامة لدور وسائل الإعلام فى فترات الصراع، بحيث يكون هناك الحد الأدنى من القواسم المشتركة التى تلتزم بها هذه الوسائل بما يحافظ على السلم المجتمعى والتماسك القيمى والميراث الثقافى والاجتماعي، ويسمح فى الوقت نفسه بدرجة من الحرية والتنوع فى معالجة القضايا المختلفة- وتضمين "نموذج صحافة السلام" فى البرامج الأكاديمية فى كليات الإعلام، بحيث يكون مكونًا أساسيًا من دراسة أخلاقيات الإعلام. حيث اعتبر باحثو الاتصال والإعلام أن "الصحافة كصانع للسلم المجتمعى" هى الوظيفة السابعة التى ترتبط ارتباطًا مباشرًا بالبعد الأخلاقى فى الممارسة العملية للصحافة - وأن تقوم مراكز التدريب ونقابة الصحفيين بتصميم مجموعة من البرامج التدريبية التى تؤهل الصحفيين لتبنى قيم الكتابة والتحرير المرتبطة ببناء السلم المجتمعى.