(الموت هزيمة لكل من يبقى حيا، وربما انتصار باهت، للراحل وحده، وهو يذوى فى مكان ما، بعيدا عن عيوننا!) .. لعلها الجملة الأكثر عزاء ونحن نعيش زمناً يغرقنا فى وحل الوباء والأزمات المتلاحقة، والوقت الذى يضيّع من الموت المتكاثر مهابته، ويفوّت الفرصة على الدمع الوفير! .. حقبة لعينة تطوى فيها صفحات الناس بتسارع مقيت، بدون مقدمات أو حتى مراسم وداع لائقة بعظمة ما قدموه من إبداع حقيقي، أو عناق محبين يبدد شيئا بسيطا من هول المصيبة!، ولعل أفضل ما يمكن فعله عند سماع فجيعة مدوية كخبر رحيل المخرج السورى العظيم (حاتم علي) أن نقول: أما سئمت أيها الموت من خطف الأحبة .. يا لهذا الرحيل الموجع الذى طوى صفحة مهمة وناصعة فى الدراما العربية برحيل مخرج روائع الدراما السورية والعربية فى هذا التوقيت المبكّر من العمر.
يغلق موقع (ويكيبيديا) القوس على تاريخ غياب (حاتم على: 1962- 2020)، ولقد كانت صدمة الثلاثاء السورى المر لا تشبه سواها لجهة الشجن والفجيعة والطعنة المباغتة، هكذا استدعى الخبر مرثية جماعية من جانب الكل فى شكل: حرقة، رحيل موجع، خسارة فادحة، فقد كان (حاتم علي) هو الجدار الأخير للدراما السورية التى تعيش حالة احتضار منذ سنوات، وكان بمثابة شعلة فى آخر النفق المظلم تقودنا إلى الضوء فى عتمة الليل الموحش بأعمال نوعية لا تنسى أنجزها هذا المخرج المتفرد كى تكون جزءا من الذاكرة البصرية المحمولة على ثراء درامى ينطوى على بصمة فكرية وطموح تنويرى ينأى عن الخفة التى ابتلعت الشاشة بغث أعمال درامية أقل ما توصف بالخفة والخزلان.
رحل رهين التغريبات الثلاثة، التغريبه الأولى حيث نزح من (الجولان إلى دمشق) ليعيش فى مخيم اليرموك، والتغريبة الثانية هى (التغريبة الفلسطينية) حين نقل حياة الفلسطينيين بلغة امتلكت القدرة على أنسنة الفلسطينى فى بيئاتهم المختلفة بأمانة، وبعمل جسور عمل من خلاله على أدق التفاصيل، ورغم ذكاء خطاب المؤلف (وليد سيف)، إلا أنه من خلف الكاميرا قدم فى نقدية مبهرة مشكلات هذا المجتمع الذى ظل يقدم بصورة ذهنية ومعمقة على الشاشة لسنوات طويلة، والتغريبة الثالثة من (سوريا إلى المنفى) بعد انحيازه إلى احتجاجات2011 ليسلم الروح لبارئها فى القاهرة وحيدا فى إحدى فنادقها وهو يجهز لفيلم (الزير سالم) الذى أخرجه بداية التسعينات من القرن الماضى فى مسلسل تاريخى أدبى يحكى قصة الشاعر (عدى بن ربيعة التغلبي) الملقب الزير أبو ليلى المهلهل، أحد فرسان قبيلة تغلب، ولم يتناول العمل حياة الشاعر كسيرة ذاتية فحسب، بل يسرد (علي) بلسان حال الكاميرا حدثا مهمّا فى الحياة الجاهلية، وهو حرب البسوس التى استمرت 40 عامًا.
رحل صاحب (الأحلام الكبيرة) وذلك بعد أن صارت أحلامنا صغيرة للغاية ومتوارية فى زمن الغربة الموحشة، وغادرنا دون أن يكمل (الفصول الأربعة) من عام 2020 الذى تحول إلى فصل واحد كئيب مفعم بمآسى وأوجاع البشرية جمعاء فى ظل الفيروس اللعين .. رحل صاحب الرؤية المدهشة فى الدراما التليفزيونية بعد أن رفض الترجل طويلا عن صهوة الإبداع، إلا بعد أن ترك إرثا كبيرا وغنيا من الأعمال الدرامية التى تركت بصمات كبيرة فى عقول ووجدان المشاهد العربى .. رحل تاركا خلفه ندبة عميقة داخل الدراما العربية عموما والسورية خصوصا، حين وقع خبر رحيله كالصاعقة على أصدقائه وزملائه وجمهوره فى سورياوالعالم العربي، بعد أن وافته المنية فى الثامنة والخمسين من عمره إثر تعرضه لأزمة حادة فى القلب، فى أحد فنادق القاهرة التى كان لجأ إليها لمواصلة عمله التليفزيونى الدرامي، والبدء بتصوير مسلسل جديد بعنوان (سفر برلك).
وعلى الرغم من أن وسائل التواصل الاجتماعى ضجتخلال الساعات الأخيرة بعبارات الرثاء بعد أن هز نبأ وفاته الأوساط الفنية فى سوريا والعالم العربي، ونعاه عدد كبير من الفنانين وحتى الناس العاديين، فقد أعلنت نقابة الفنانين السورية نبأ وفاته دون أن تنعيه، وقالت النقابة السورية عبر منشور فى صفحتها الرسمية فى فيسبوك مكتفية بقولها: (يعتبر حاتم على من المخرجين الذين أغنوا المكتبة العربية بالعديد من الأعمال التلفزيونية نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: الزير سالم، التغريبة الفلسطينية، والكثير الكثير من الأعمال التلفزيونية، لكم طول البقاء ولأهله وذويه الصبر والسلوان)، ورغم هذا البيان الهزيل فهذا لا ينفى أن الواقع المر الأليم يحدثنا بجسارة أن سوريا فقدت صوتا من الأصوات العربية الوطنية التى عرفت بجدارتها فى الدفاع عن كل قضايا الأمة من زاوية الفن والدراما التى تلامس شغاف قلوب الملايين.
ولأن (حاتم علي) كان يعتقد أن أهمية العمل الفنى لا تستمد من أهمية الموضوع الذى يتناوله، إنما أولا من المعالجة الفكرية والدرامية، فهو كان من المخرجين الذين يظنون أن الموضوع هو الذى يطرح شكل التعبير عنه، وبالتالى يقترح لغته الخاصة به، كما فعل ذلك فى روائعه الدرامية التى لو تم حذفها من رصيد الدراما السورية لما بقى شيئا ذو قيمة أو يلفت النظر، ولهذا فإن الذاكرة الدرامية السورية سوف تعانى جرحا غائرا، لأنها فقدت مخرجا بديعا يعد نفسه من المشتغلين ضمن المدرسة الواقعية، من دون أن يكون على تضاد مع المفهوم الجمالي، لكنه كان يحاول دائماً استنباط أحاسيس أو مشاعر الشخصيات، والوصول بها إلى أقصى ما يمكن، والبحث عن التفاصيل الصغيرة عبر حساسية الكاميرا التى استمدت ذكاءها من مخيلته السحرية المفتونة بالإبداع.
ربما يرى البعض أن (حاتم علي) جانبه الحظ كثيرا فى ولاته الفنية، فلقد قيض لأعماله ورشة من الكتاب النوعيين مثل ممدوح عدوان فى (الزير سالم)، ووليد سيف فى (ثلاثية الأندلس)، وريم حنا ودلع الرحبى فى (الفصول الأربعة، وعصى الدمع)، لكن تكمن نباهة هذا المخرج الذى ولد عظيما، باشتغاله على الحذف والكثافة لا الثرثرة، وعلى محاكمة التاريخ من جهة، كما جاء فى (ثلاثية الأندلس)، ونبش الأوجاع الاجتماعية من جهة ثانية، كما جاء فى مسلسل (الفصول الأربعة)، حيث قدم بحس اجتماعى فاق كل التوقعات مرثية أخيرة لاندحار الطبقة الوسطى، وإشارة ضمنية إلى قبح الطبقات البديلة، فيما كانت (التغريبة الفلسطينية) وستبقى إحدى العلامات الاستثنائية فى إعادة كتابة وجع التهجير الفلسطيني، فضلا عن أعماله الرائعة (عمر، العراب) إلى جانب ما قدمه فى الدراما المصرية (الملك فاروق، أهو ده اللى صار، حجر جهنم، كأنه إمبارح، تحت الأرض).
الراحل العظيم كان سلاحه التجريب، بمنطق عميق وحكيم، لم يكن يراهن بدون خبرة، أو معرفة، أو وعى كاف، بل كان نضوجه يجعله ينام ويصحو على سكّة بحث دائمة، وهّمه الأول والأخير كيف يزوّد المشاهد بأعلى جرعات دهشة ومتعة ممكنة، حتى ولو بالمسائل التقنية الموغلة فى الخصوصية، فمن لا يتذكر مثلا حركة الكاميرا فى (أحلام كبيرة)، أو مثلا تمرير الوقت والصوت الداخلى للممثل فى (على طول الأيام)، أو الشكل البصرى فى (عصى الدمع)، ومن يخفى عنه المبارزات الأدائية لكوكبة النجوم السوريين الذين قادهم فى (ملوك الطوائف) الرجل كان ينقل إلى المستشفى من شدة التوتر فى التصوير، لكنّه كان من أكثر الناس هدوءا، واتزانا، وصمتا وتهذيبا فى الحياة.
ولطالما كانت كاميرا (حاتم علي) مقياساً للفرجة الرصينة التى تجذب المشاهد لمتابعتها بناء على اتفاق ضمنى مسبق لثقته بأنه أمام وجبة درامية مختلفة ومدروسة فى بلاغة الأداء وجمالية الصورة والكوادر المشبعة، التى لا تأتى على جناح إثارة متعمدة بقدر ما تجنح نحو زاوية نظر تتيح للعدسة التقاط الظلال برؤية ورؤيا احترافية، وضعت هذه المشاريع فى مقام آخر، بدليل إعادة اكتشاف خصائصها فى كل مشاهدة جديدة لها، وخذ مثالا على ذلك حينما حقق خرقا على مستوى الأعمال البدوية، من خلال مسلسليه (صراع على الرمال) عن نص لهانى السعدي، و(أوركيديا) عن نص لعدنان عودة، وفيهما قدم صورة مغايرة لهذا النوع من المسلسلات، محققا آفاقا بصرية جديدة، ومؤالفاً بين الشعر والفيديو والمادة الدرامية.
فى كتابه (الاستبداد المفرح) يقول (فجر يعقوب) الذى وثق لرحلة (حاتم على) توثيقا دقيقا: أكاد أحسب فى شهادتى أن حزمة من أعماله كانت معدة لصنع ضمير أخلاقى درامى لا يمكن تجاوزه، حتى مع التبدلات العميقة التى صارت تتناول التلفزيون - كوسيلة - تضرب فى القاع الاجتماعى وتزلزله، وتغير من مفاعيل الحياة العربية المعاصرة نفسها، إذ ظل حاتم على مهيمناً على أدواته من دون تنازل، وليس براعته فى التقاط أدقّ أنفاس ممثليه وممثلاته، إلا نابعة من هذه (الهيمنة المفرحة)، فنّ التلاقى مع الممثل فى المنتصف، وأعتقد أن دماثة وخجل حاتم على لعبا دوراً كبيراً فى صنع دقة المخرج الكبير بداخله، وأجزم أن (حاتم علي) الذى فرض رؤية خاصة فى طريقة تعامل المخرج مع الممثل، متجنبا بقوة (فوضى) شركات الإنتاج التلفزيونية العارمة التى تفرض على معظم المخرجين رؤاها استطاع أن يأخذ من ممثليه أفضل ما لديهم، وهذا يفسر جذوة ذلك الإشعاع الذى لا ينطفئ فى أعماله، الإشعاع الذى رفع من مستويات أعماله إلى الحد الأقصى، وصار يمكن القول إن للتلفزيون ذاكرة بعكس ما يشاع عنه، فلا أحد فى الدراما العربية يمكنه تجاوز هذا الإطار الذى وضعه فى شغله على مسلسلاته، كمن كان يدير معركة رابحة سلفا.
نهايتا: لم أكن صديقا لحاتم على، بل لم ألتقيه مرة واحدة فى حياتي، لكنى كنت أعرفه عن قرب من خلال أعماله التى لم أفوت عملا واحدا منها بل أنى شاهدت أعماله التاريخية بالذات وعلى رأسها (التغريبة الفلسطينية) مرات ومرات كى أسترجع زخم التاريخ العربي، وأنعش الذاكرة كلما هانت أوضاع العرب، ومن ثم أدركت أنه كان يدير صنعته كمخرج بفرح ومقاربة للذاكرة التى لا تنشغل بالذوبان، مع أن وظيفتها فى عالم متقلّب ومتنافر أن تعيش على هذين الحدين: حد الدراما التى صنعها حاتم علي، وصنع معها ذاكرة مضيئة للتلفزيون فى مصالحة تاريخية فريدة مع هذه الآلة، وحد الدراما الأخرى القائمة على الطيش وسهولة ابتلاع المفردة الدرامية التى صارت ترغم كثيرين على الاستقواء بالتلفزيون فى تفتيت الذاكرة الجمعية.
ما فعله حاتم على فى مشواره الحافل هو صناعة ذاكرة مجيدة للتلفزيون، بالرغم من كل ما تقدم من كتابة ونظريات فى تمجيد طقوس الصالة المعتمة، وكأنه خلال مشوار حياته كان يردد لماضيه بأن لا يغيره وإن ابتعد عنه، ويطلب من الحاضر أن يتريث عليه قليلا ليصنع مشروعه ويهديه للمستقبل، الذى لا يعرف ماذا يخبئ له، لكنه قطعا لم يكن يخطط بأنه سيمضى بهذه السرعة، والطريقة الصاعقة.. وحيداً، بعيداً، عن بلده، وقبل أن ينجز آخر أحلامه، وكأنه يعيد بتصرف بسيط شعر (نزيه أبو عفش) الذى كتبه لشارة مسلسله (أحلام كبيرة): نامى إذا يا روح نامى الآن، هى آخر الأحلام نطلقها على عجل ونمضي! .. رحم الله مخرج روائع الدراما السورية العربية حاتم على الذى سيبقى محفورا فى الذاكرة الجمعية العربية بفضل أعماله التى تعد علامات بارزة فى الفن التليفزيونى العربي.