يظل وحيد حامد، واحدًا من المبدعين الذين استطاعوا أن يحولوا الورقة والقلم إلى صورة، وجسدوا بأقلامهم مشاهد من حياتنا، فعل ذلك بحرفية ونفذها بصدق ومشاعر خالصة، واستطاع أن يعبر بمضمونها عما يجول في حياة الكثير منا، كانت أفلامه تنبض بالحياة، كل مشهد وكل صورة تحكى حكايات تمثلنا تمامًا، قصص حبنا الفاشلة، أمالنا المبعثرة، أحلامنا المفقودة، والتي لم تتحقق.
في عالم وحيد حامد كان كل شيء مختلفًا، ومعنى آخر غير الذي تدركه العقول في الوهلة الأولى، معاني تجسد الأماني الكامنة في داخلنا، ولعل "حامد" الذي عاش منسيًا لسنوات، استطاع أن يجسد هموم المنسيين والمهمشين في المجتمع، هؤلاء الذين فاتهم قطار الحياة ولم يصلوا إلى ما تمنوه، ولم يحققوا أبسط ما يتمناه أي إنسان "عادى"، فعاشوا في تلك الحياة مهملين منسيين، ورحلوا دون يتذكرهم أحد.
ويبقى أكثر أفلام "حامد" التي استوقفتني كثيرًا وجعلتني أغوص أكثر في عالمه الخاص، وتأكدت منها عن صدق ما يكتبه ويعبر عنه، فيلمه الشهير "المنسي" الذي جسد لنا من خلاله جانبًا مهما من المعاناة الإنسانية، ورسم لنا بقلمه همومًا وأحلامًا عن حياة البسطاء.
يحكى وحيد حامد في "المنسي" حياة عامل تحويلة نساه المجتمع، مهمش مكانيًّا واجتماعيًا، يعاني من الملل ورتابة الحياة، مر شبابه دون تحقيق شيء، يعمل في وظيفة لن تمكنه من تحقيق نفسه أو أحلامه، لكنه دائمًا ما حاول نسيان همومه بالخيال والتفكير في عوالم بعيدة التحقيق، ورغم أن بطله "يوسف" يعلم أنه أصبح عاجزًا عن تحقيق أحلامه وأن الحياة تجاوزته ربما فاته إلى الأبد، وغرق في رتابتها، إلا أنه لم يفقد رضاه، ولم يفقد الإنسانية الكامنة بداخله.
بطل الفيلم "يوسف" الذي جسده الزعيم عادل إمام، عبر عن أجيال كثيرة، ربما جيل الثمانينات الآن يشعر بها، وكثيرا من أبنائه يعيشون نفس مرارته، فهو الشاب الذي تجاوز الثلاثينيات ولم يحقق شيئا، فاته قطار الحياة بكل ما تحمل الكلمة من معاني، حتى المجتمع نفسه أصبح يتعامل معه من هذا المنطلق، فإن رشح له إحداهن ليتزوجها رشحوا له ما لا تناسبه لا على مستوى الجمال أو الفكر أو الحالة الاجتماعية، وكأنه أصبح مضطرا لقبول أي شيء.
"يوسف" أيضًا كان مثالاً لهؤلاء الذين يعيشون الحياة "ببراءة الأطفال وطموح الملائكة" كما قال "المحفوظ" في "الحرافيش" فهو لم يتخلى عن "غادة" الفتاة التي استنجدت به، كان بطلا ربما لم يدافع عنها فقط بمبادئ البسطاء، ولا عن كرامته الذى تفقده الحياة كل يوم معنى من معانيها، ولكن أيضا عما تبقى من روحه الطيبة، رغم كل ما يحيطه من إحباط وملل، لكنه حين جاءت لحظة الفراق وطالبته بأن يستمر معها تراجع وعاد إلى صفوف المنسيين، أولئك الذين لا يملكون رفاهية الرحيل عند الشعور بالألم، ليعود إلى حياته وأحلامه يستقبل همومه بكل رضا.
في النهاية رحل وحيد حامد، لكنه سيبقى وسيعش أبدا بما تركه لنا من أعمال وأثر خالد في الوجدان، وسيظل دائما صاحب "المتعة"، وأحد هؤلاء الذين أخلصوا للفن والإبداع وعبروا عنه بصدق ونبل.