صباح الخير مع صوت آندي ويليامز بأغنيته الشهيرة “Speak Softly Love” أو "تحدثي برقة يا حبيبتي" في فيلم "العرّاب"، السلسلة التي بدأت في العام 1972 من إخراج فرانسيس فورد كوبولا، الوضع صعب للغاية في توقيت يفتقد صباحات الخير ومساءاته، يحتشد بالأرقام التي لا ترحم، أرقام الموتى والمصابين بفيروس كورونا، وأرقام الحال الاقتصادي المتردي، كما تعكسها الاحصاءات المتوافرة، تكفي لتثير رعباً حقيقياً في ظل الظرف الكوني الراهن الذي اختل فيه التوازن الطبيعي، صوت آندي ينسيني طعم الموت ويخفف من عجزي، كما فعل في الفيلم بالضبط، حيث تغلغل بسخاء يتلهف للحب المفقود في زمن مضغوط بتقاليده المثقلة بالمادية من ناحية، وبالعنف من ناحية أخرى.
الموسيقى بالنسبة لي في هذه الحالة أقوى من الخوف والقلق والضعف والحجر الصحي، إنها هدنة المتعبين من أمثالي الذين يعيشون على حدود المواجهة اليومية مع الفوضى والفيروس، في مسارٍ درامي مفتوح على عالم منهار، قاس ، مؤلم، ربما كانت الموسيقى نوعاً من حنين هو طريقتي في البقاء، إن الهشاشة الموجودة في موسيقى فيلم "العراب" تُنجي من الجزع، إنها نموذج لموسيقى السينما في السبعينيات التي تبلورت بإرهاصات، مزجت بين التعبيري الحالم والإيقاع السريع المتجدد في مرحلة ثرية بالتقلبات الثقافية والفنية، موسيقى استثنائية تشعل الحماس العاطفي، تقتفي المعنى إلى ما تبقى من حياة وتفتح أبواب الأسئلة.
يبدو دائماً فيلم "العراب" كما لو كان يمتلك الإجابة عن كل الأسئلة الوجودية، إذ أن هذه الثلاثية لها تأثيرها العميق على المستوى السينمائي أو الإنساني، وإن كانت حكايته تدور في عالم المافيا والعصابات الإيطالية في أمريكا، من خلال عائلة كورليوني، إحدى أقوى عائلات المافيا الإيطالية في نيويورك، لأنه يورط مُشاهده ويجعله شريكاً معه في لعبة الاحتمالات، كأنه يجره إلى سيناريو الخوف والعبث في حياة تحفر الكمائن لتبتلع الخائفين والمتهورين معاً، ثم يقول للمُشاهد: لننجو معاً إذا ما استطعنا النجاة.
فلسفة الفيلم المقتبس عن رواية صدرت في العام 1969 بنفس الاسم "العراب" للمؤلف ماريو بوزو الذي شارك أيضاً كوبولا في كتابة السيناريو، هي الوجود الإنساني بكل هلوسته وحنينه إلى لحظة يتمناها الحس البشري ليثبت أنه لازال ينتمي إلى الحياة، لحظة تشرق بالهدوء والبساطة وتصطفي الحب، لعل هذا ما أدركه الموسيقار الإيطالي المعروف نينو روتا (3 ديسمبر 1911 في ميلانو – 10 أبريل 1979 في روما)، فغير أنه أضفى لمسته الإيطالية على أجواء الفيلم، فإنه أيضاَ تماهى مع الدراما بشكل مذهل وقدم مقطوعة هي نجمة الفيلم المرشدة إلى حكايته وعمقه الفلسفي، كأن الموسيقى تقف بين زمنين وتصنع عالمًا يطفو فوق الخيال، تتمازج فيه الآلات الوترية مع آلات النفخ؛ فتمنح أثراً نفسياً إضافة إلى أثر الدلالي بأنغام متنهدة، حزينة، هادئة، منذرة كصوت الكلارنيت الموحي بالهشاشة والجسارة، بالحكمة والجنون، بالتلاعب في المصائر ثم الحنين إلى بعيد غامض؛ يلهث القلب في أعقابه، هكذا استهلت المقطوعة الموسيقية بخصوبة لحنية، ترسم مدخلها إلى أحداث الفيلم وحالته وتصيغ انفعالات الغضب، الخوف، الحب والألم، يتموج الكلارنيت ما بين استهلاله الهاديء ثم تعلو أنغامه وتسانده آلة المندولين الوترية، يتداخل معها الاكسيلوفون بإيقاعه المميز، وما إن ينتهي يدخل الفلوت، درامز بإيقاع مترقب ثم تتداخل مرة أخرى المندولين، يتبعها الجيتار والكمان بصوت أقرب إلى طبيعة الصوت البشرى، فيكتمل إيقاع المقطوعة الموسيقية بهذا المزج الوتري مؤكداً حالة الولع الغامض في الحكاية، ويبدو كما لو أنه يسعيد إلى الجسد شحنة الكهرباء، يزداد الإحساس بذلك حتى تستعر حمى الاستنهاض في الأوركسترا كلها، فينهال سيل النغمات الهائجة بشكل كفيل بأن يجرف الجميع إلى بر الذكريات البعيدة، وحين تهدأ أو توحي بذلك، يعود الكلارنيت ليوقظ الآلات الأخرى من جديد ولا ينسى الكمان الذي يحسم حالة الولع المرتبك.
عند ذروة كل حدث داخل الفيلم، استخدمت آلات النفخ لتصعيد هذه الأحداث وإعطاء أهمية للصورة أو الحدث الذي نشاهده، الموسيقى شدت انتباه المتفرج أكثر من مرة، وساهمت في تشكيل جزء ما من وجدانه؛ جزء يجعله لا ينسى "العراب" الذي تعلم منه أن الحياة هي اسم ذلك النصر المتحقق على الموت، فكرة وموضوعاً، تلك الأنغام المتسربة قد تشعرك بأنّك "دون فيتو كورليوني"، مارلون براندو، زعيم العائلة، وأنت لست كذلك، لكنك تتورط معه عاطفياً دون قصد وتتماهى مع حمايته لعائلته، وجدانية هذه الموسيقى تترك أثرها وجمالها ليشعر بها أي مستمع، بلا شرط الدراسة والاحتراف والتخصص، لها فلسفتها ولها كذلك شفافيتها ورهافتها التي تجذب الروح، وهذا سبباً من أسباب عظمتها وخلودها حتى هذه اللحظة، ويكفي أن مجرد حضورها يستدعي الفيلم بخفة تسمح حتى بارتجال جملاً من حواره الكلاسيكي، كأنها ظل مقطوع من شجرة الفيلم الكبيرة، الموسيقى تجدد الإحساس بالفيلم ومعانيه المضمرة في آلة نفخ أو أخرى وترية، إنه ما صنعه الموسيقار "نينو روتا" بألحان وقفت عند تخوم الخيال والواقع، فكانت سبباً في ترشحه لجائزة الأوسكار ضمن 11 جائزة أخرى ترشح لها الفيلم ، فاز بثلاث منها الموسيقى، صحيح أنه لم يفز بها عند الترشيح الذي تم سحبه منه في الجزء الأول لتمنح لفيلم آخر، لكنه فاز بها مع الجزء الثاني.