المشهد السياسى الاستثنائى في الولايات المتحدة مازال يواصل استثنائيته، غير المسبوقة، حتى في أدق التفاصيل البروتوكولية المتعلقة بتسليم السلطة من رئيس منتهية ولايته إلى رئيس جديد، وهى التفاصيل التي كانت دائما أشبه بإجراءات احتفالية، على غرار جلسة الكونجرس للتصديق على نتائج الانتخابات الرئاسية، والتي لم تخرج يوما عن كونها جلسة بروتوكولية تهدف لإضفاء المباركة التشريعية على الرئيس الجديد، إلا أنها في هذه المرة ربما تحمل في طياتها المزيد والمزيد من الجدل، مع قيام بعض الأعضاء الموالين للرئيس دونالد ترامب بالطعن فيما آلت إليه الانتخابات الأخيرة، والتي أسفرت عن فوز بايدن.
وبعيدا عن جدوى الطعن المحتمل على نتائج الانتخابات الرئاسية، إلا أنها تبقى سابقة مهمة في تاريخ الولايات المتحدة، قد تساهم بصورة كبيرة في إعادة صياغة الكثير من المفاهيم، والرؤى، حول العديد من ثوابت واشنطن، كالديمقراطية ونزاهة الانتخابات الأمريكية، والتي كانت بمثابة "مقدسات" لا يمكن المساس بها، كما أنها تضع كذلك المزيد من المسئوليات على عاتق مواقع معينة، طالما نظر إليها باعتبارها "كمالة عدد" في الإدارات الأمريكية المتعاقبة، وعلى رأسها منصب "نائب الرئيس".
جلسة التصديق على الرئيس الجديد، في الكونجرس الأمريكي، التي سيترأسها نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس، تمثل – رغم طابعها البروتوكولى – مسئولية كبيرة على عاتق الرجل، الذى طالما لعب دورا مختلفا عن أسلافه الذين شغلوا المنصب، لعقود طويلة من الزمن، وإن كان صامتا أو غير مرئى، إلا أن حضوره كان مؤثرا منذ قبل دخول البيت الأبيض بصحبة ترامب، قبل 4 سنوات كاملة، بدءً من دوره البارز في الانتصار الانتخابى الكاسح الذى حققه الرئيس المنتهية ولايته في 2016، على حساب غريمته الديمقراطية هيلارى كلينتون.
بنس استطاع بكفاءة كبيرة أن يكون الرجل الثانى، قولا وفعلا في إدارة ترامب، فلم تطاله يوما انقلابات الرئيس، ذو النزعات المزاجية، والتي طالت كبار مسئولي الإدارة، وهو ما يتجلى في حملات الإقالة أو الاستقالة، والتي شملت كبار الوزراء، ومستشارى البيت الأبيض، بدءً من وزير الخارجية السابق ريكس تيرلسون، مرورا بمستشار الأمن القومى جون بولتون، وحتى وزير الدفاع مارك إسبر، مرورا بعشرات المسئولين الذين ذبحتهم "شطحات" سيد البيت الأبيض، لتصبح الإدارة المنتهية ولايتها هي أحد أكثر الإدارات من حيث عدد المسئولين الذين تركوا مناصبهم.
ولكن كفاءة بنس لم تقتصر فقط على قدرته الاستثنائية في تفادى تقلبات ترامب وانقلاباته على أصدقائه، ولكنها منحته الثقة ليخوض الكثير من الأدوار، فقاد وفود أمريكا في العديد من المواجهات الخارجية والدبلوماسية، على غرار مؤتمر وارسو في 2019، لحشد التحالف ضد إيران، كما خاض جزءً من المعركة ضد فنزويلا، بالإضافة إلى كونه "مهندس" التقارب مع كوريا الشمالية، عبر مفاوضات عقدت في الظل أولمبياد كوريا الجنوبية، ليصبح حضوره مؤثرا إلى حد كبير، مقارنة بأسلافه ممن شغلوا المنصب دون القيام بدور يذكر، وعلى رأسهم الرئيس المنتخب جو بايدن نفسه، والذى شغل المنصب في حقبة الرئيس السابق باراك أوباما.
وهنا تصبح أمال ترامب، وإن كانت مجرد سراب، عى قدرة بنس في قلب نتائج الانتخابات الرئاسية لصالحه، بمثابة امتداد لحالة من التفرد التي تمتع بها نائب الرئيس الأمريكي، لتضفى بعدا جديدا للدور الذى يلعبه شاغلى هذا المنصب، ليتحول من الصورة البروتوكولية، إلى المهام الاستثنائية في المستقبل، وعلى رأسهم نائبة الرئيس الجديدة كامالا هاريس.