فى أحد حواراته التليفزيونية قال الكاتب الكبير محمد المنسى قنديل، إنه عندما فكر فى كتابة رواية "طبيب أرياف"، التى صدرت عن دار الشروق، كان يقصد كتابة رواية عن أيام مضت وحكايات ولت، ولكنه اكتشف أكثر من ذلك، اكتشف أن كثيرا مما كتبه على أساس أنه ماض، لم ينته، وأنه لا يزال قائما ولا يزال أثره باقيا، وذلك حق.
السؤال الذى يطرح نفسه: كيف نقرأ رواية "طبيب أرياف" وكيف نلج عالمها، ونتفهم أحداثها؟ فى الرواية يمنحنا محمد المنسى قنديل أكثر من باب للدخول إلى عالمه الأدبى:
الباب الأول، يدخل منه أبناء المدن، حيث يرون عالما يعرفون ملامحه من أعمال التليفزيون والسينما، يشاهدون قصة حب لا يفهمونها تماما، فكيف لامرأة تمنح نفسها ثم تمنع ذلك، يرون الريف بحياته البسيطة بأهله وحيواناته المتشاركين فى كل شىء، يفكرون فى الأمر كنزهة قضاها الطبيب "على" ولم يذكر المنسى اسمه إلا مرة واحدة، ويتمنى أهل المدينة بعدما يقرأون الرواية لو يعيشون هذه التجربة طالما يضمنون النجاة فى النهاية عن طريق "جواب النقل" الذى يأتى فى النهاية لينقذهم مما وقعوا فيه.
الباب الثانى والأخطر يدخل منه أبناء الصعيد، العالم الذى دارت فيه الرواية، فالرواية تضرب بوتر حاد على قلب كل مواليد الثمانينات وما قبلها، الذين شاهدوا أحداث الرواية، ليس شرطا أن يكون المحور "وحدة صحية وطبيب غريب" ولكن المحور عادة هو الإنسان، الذى يخفى أكثر مما يظهر، الراغب فى حياة أفضل، لكن اليد قصيرة كما يقولون، فيستسلم لما يجرى له، ويقنع نفسه بالرضا، المحور دائما هو المرأة التى تدبر حياتها كيفما اتفق وبأحلامها التى لا تتعدى عتبة بيتها.
الباب الثالث هو باب الرواية، ومحمد المنسى قنديل، يعرف بخبرته الطويلة، كيف يبنى الرواية، كيف ينقلك فعليا إلى عالم سردى يدور فى قرية بعيدة، يجعلك تتنفس نسيمها المترب تماما، يجعلك تشعر بالتوتر عند وقوع أحداثها، يجعل قلبك يقفز من مكانه عندما تسمع طبول الغجر تقترب، ويجعل القلب يضطرب عندما تمر ابنة القرية الممرضة "فرح" فى الدرب الضيق قاصدة الوحدة الصحية، بجمالها الكثير وحظها القليل.
يعرف محمد المنسى قنديل كيف يأخذ من الشخصيات ما يريده ويترك ما لا يريده، نحن لا نريد أن نعرف عن "عيسى" زوج فرح سوى أنه يعاني، وأنه يريد حلا، وأنه مستعد لدفع حياته ثمنا لهذا الحل، ولا نريد أن نعرف عن الطبيب أين يذهب بعد انتهاء الرواية، ليس مهما، لقد فسد كل شيء تماما.
وكى تشتعل الأحداث فى القرية الهادئة منح محمد المنسى قنديل كل شخصياتها القدرة على صناعة الفعل، ابتداء من العمدة الذى تتركه زوجته الشابةهاربة، ومرورا بـ جليلة التى يقتلها أههلها بسبب الحب، والجازية الغجرية التى تمسك بأطراف حياتها وحياة قبيلتها فى عراء الشوارع، وضابط الشرطة الذى يتعامل كما يليق بمأمور فى قرية نائية، أما فرح وعيسى فهما قصة غريبة تحدث كل يوم، وفى كل يوم نفاجأ بها كأنها تحدث للمرة الأولى.