يعرف أهل اللغة، أنَّ الحقيقة تعنى حمل اللفظ على ما وضع له، وأنَّ المجاز هو استعمال للفظ فى غير ما وضع له لعلاقة، ولمـَّا كان كتاب الله، والعربى فى لفظه، هو مصدر التشريع الأول، وسنة رسولنا الأكرم، هى مصدره الثانى، وكان المجاز استعمال اللفظ على غير حقيقته التى وضع لها عند أهل اللغة، فقد وقع خلاف بين العلماء حول وجود المجاز فى كتاب الله خاصة، والحقيقة التى لا يمكن الحيد عنها، أنَّ المجاز موجود فى كتاب الله، وشواهده التى لا يمكن حملها على الحقيقة كثيرة، ولا مشكلة فيها على الإطلاق، بل هو من الثراء اللغوى والبلاغى الذى يمثل كتاب ربنا ذروة سنامها، فلا يمكن حمل مثل قول ربِّنا: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا}، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}، {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}...وغير ذلك كثير على الاستعمال الحقيقى الذى نعرفه فى لغتنا لهذه الكلمات.
ومع اختلاف العلماء، حول وجود المجاز فى القرآن الكريم، إلا أنَّهم يتفقون جميعًا على تنزيه الله عز وجل عن مماثلة الحوادث، وأنَّ كلَّ حرف فى كتاب الله فى موضعه كما أنزله الله، حيث يتوقف من لا يقولون بالتأويل مع التسليم التام، بينما يؤوِّل أهل التأويل تأويلًا يليق بجلاله سبحانه، وكلُّ هذا من الثراء العلمى والمعرفى، لا يزيد المؤمنين إلا يقينًا وترسيخًا لإيمانهم.
ومن أبرز المباحث المتعلقة بالاستخدام الحقيقى والمجازى فى القرآن الكريم ما يسميه أهل لغتنا الجميلة بصيغة الأمر، فقد كثر ورود الأمر فى القرآن الكريم بصيغه الأربع التى يعرفها أهل العربيَّة، وهى: فعل الأمر كما فى قوله تعالى {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ..}، أو اسم فعل الأمر {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ...}، بمعنى: احفظوا أنفسكم من المعاصى، أو الفعل المضارع المجزوم بلام الأمر كقوله تعالى {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}، أو المصدر النائب عن فعله كقوله تعالى {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ..}، أى: فاضربوا رقابهم.
وعلماء الأصول يقولون: إنَّ الأمر إذا ورد فى نصٍّ شرعى من القرآن أو السنة، فالأصل الاستعمال على الحقيقة، حيث يفيد الوجوب والإلزام، أى: يجب على المكلَّف فعل ما طلب منه بهذه الصيغة، وذلك متى خلى عن قرينة صارفة عن هذا المعنى الحقيقى، أو صاحبته قرينة مؤكدة للوجوب، فمثال الخالى عن القرينة: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ}، {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا}، {... فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا}، فهذه الأوامر وما شاكلها فى آيات أخرى، هى على سبيل الوجوب، لخلوها عن قرينة تصرفها عن هذا الوجوب، ومثال الأمر الذى صاحبته قرينة مؤكدة {واعبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا..}، فإنَّ النهى عن الإشراك بالله تأكيد لوجوب الإيمان به وعبادته وحده، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}، فإنَّ طلب الانتهاء عن هذا الأمر بصيغة السؤال التحذيرى، مؤكد، لوجوب ترك شرب الخمر، وما صاحبه فى الذكر، وإذا كان ورود الأمر خاليًا عن القرينة يجعله للوجوب الحتمى، فإنَّ مصاحبة قرينة له تصرفه إلى معنى من معانيه المجازية الأخرى عند القائلين بالمجاز، وإلى معنى من معانيه الحقيقية أيضًا عند من ينفون وجود المجاز فى القرآن الكريم، حيث يجعلون استخدامه فيها على سبيل الحقيقة أيضًا من باب تعدد الاستخدام، وهو خلاف اصطلاحى لا يترتب عليه إلا الثراء المعرفى.
فكما ورد فعل الأمر دالًّا على الوجوب فى آيات من كتاب الله، ورد فى آيات أخرى لا يفيد هذا الوجوب، ومن ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} فكتابة الدَّيْن المطلوبة بفعل الأمر ليست للوجوب، وإنَّما للإرشاد والاستحباب، كما يرى جمهور الفقهاء، وإنَّما صرف الأمر عن حقيقته لورود القرينة فى قوله تعالى بعدها، {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِى اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ}، فهذا يوجب صرف الأمر عن حقيقته، فالمعنى، فإن رضى بعضكم ذمة الآخر، ولم يطلب توثيقًا لأنَّه يأمنه، جاز ترك الكتابة، ولو لم يكن هذا المعنى لخلت عن الفائدة، وحاشا أن يكون فى كتاب الله ما يخلو عن فائدة، وقد أكَّد هذا المعنى الأمر الثانى والثالث فهما للوجوب {فليؤد}، و{وليتق}.
ويأتى الأمر ويراد به الدعاء، مثل:{قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِى وَلِأَخِى وَأَدْخِلْنَا فِى رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} فبديهى أنَّ الأمر هنا ليس للوجوب، حيث لا يكون الأمر من الأدنى للأعلى، وقوله {فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ} هو للتوبيخ والتقريع للمعاندين، وقوله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} فهو للإهانة، ويأتى الأمر للتهديد كقوله تعالى {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} فالأمر بالكفر هو تهديد للكافرين، ومنه قوله {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ}، ويأتى الأمر لإفادة الحِل قوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}، فهو للحل والإباحة، حيث كان الصيد محظورًا أثناء الإحرام، أما وقد انتهى الإحرام فقد عاد الصيد إلى حكمه الأساسى وهو الإباحة، ولا يلزم من تحلل من إحرامه أن يصطاد بعد تحلله، ومن إفادة الأمر الإباحة قوله تعالى {إِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِى الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، فالانتشار فى الأرض مباح حُظِرَ أثناء الصلاة، فإذا انتهت عاد كما كان، وكذا طلب الرزق الذى جاء بصيغة الأمر أيضًا.
ويأتى للتسوية: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}، ويأتى للندب، ومنه {يَا بَنِى آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}، فإنَّ الأمر بأخذ الزينة عند الصلاة مندوب، وكذا الأكل والشرب لمن شعر بالجوع، وفى قوله: {إِنَّ هَذَا أَخِى لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِى نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِى فِى الْخِطَابِ}، الأمر ليس للوجوب، وإنَّما للالتماس، لأنَّ الأخ أو الند ليس له ولاية إلزام أخيه أو نده، والأمر من المساوى للمساوى يفيد الالتماس والطلب، ويأتى الأمر للتحدى والتعجيز: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِى رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ...}.
وهذا الثراء اللغوى والفقهى المتعلق بصيغة واحدة من صيغ العربيَّة، لهو خير دلالة على سمو لغتنا، وأنَّ قدرتها على إفادة الأحكام الشرعيَّة المتعددة بصيغة لغويَّة واحدة لا توجد فى لغة من اللغات التى يعرفها البشر.