"فانطلقي يا حبيبتي، افتحى الباب عريضًا على مصراعيه، واتركيه مفتوحًا.. وفى الطريق المفتوح ستجدينني يا حبيبتي، أنتظرك، لأنى أثق بك، وأثق في قدرتك على الانطلاق، ولأنى لا أملك سوى الانتظار.. انتظارك"، من خطاب حسين إلى ليلى في فيلم الباب المفتوح (1963 ــ هنري بركات) ، كلمات هي قطرة حب مركزة، تحاول أن تغسل ذنوب مجتمع تنتقل من جيل إلى جيل باعتيادية، تنسحق المرأة بين أنيابها دون أي إحساس بالذنب أو تأنيب الضمير، يأت هذا المُحب لينتشل محبوبته من ركام العادات والتقاليد الضاغطة بقوة على الروح، يمنحها إشارة التحرر والخروج إلى الباب المفتوح والمُشرع على الفضاء الشاسع للذات المستقلة، يحاول أن يساعدها كي تقطع كل خيوط التبعية وألا تمشي وراء أي ظل، إنها في الحقيقة محاولة عزيزة الحدوث سواء في الواقع أو في الافتراضي، يقول المُحب الثائر:" وأنا أحبكِ وأريد منكِ أن تحبيني، ولكنّي لا أريد منكِ أن تفني كيانك فى كيانى ولا فى كيان أي إنسان. ولا أريد لك أن تستمدى ثقتك فى نفسك وفى الحياة مني أو من أي أنسان. أريد لك كيانك الخاص المستقل، والثقة التى تنبعث من النفس لا من الآخرين".
لا شيء أقوى من هذه الكلمات يجتاح ذاكراتي المتعبة الآن، ويستدعي صورة فاتن حمامة وصالح سليم في مشهد معبر من "الباب المفتوح"، يقفان على شاطيء البحر بين مد وجزر، البطل يعمل بأقصى طاقته من أجل التغيير، والبطلة ذاهلة، مستغرقة في هواجسها الاجتماعية والشخصية، لا أدري ما الذي ذكرني بهذا المشهد بالذات في الذكرى السادسة لفاتن حمامة، لعل الكلمات المحفزة تسحب الروح من حالة السأم إلى وعد ببداية جديدة، ربما رغبة في القفز على العيش العادي، لكن الشيء الحقيقي أن هذا الجزء العاصف بالتحريض والشجن في نفس الوقت هو تفصيلة من صورة فاتن حمامة.
في العادة نحن نتذكر الصورة الإجمالية ثم نستغرق في تشطيرها وتقسيمها تفصيلياً بغرض التحليل والوصول إلى معنى، إنما هنا يتحول مشهد مشاكس في فيلم عنيد إلى مفتاح للصورة المشتهاة، سقطت من ذاكرتي الملامح البريئة للمرأة المعذبة أو الهيبة التي لا تُمَسْ لنجمة كبيرة هي سيدة الشاشة العربية، وبقي هذا الجزء الخارج عن السياق التقليدي والذي يصنع مساحة الزهو والتأمل، لتخرج "اللؤلؤة" كما وصفها خيري شلبي من محارتها في أدوار بلغت جرأتها حد الصدمة عند جمهورها، لكنها عرت الجزء الخفي في شخصيتها والمدفوع بذكاء رصده عمر الشريف في أحد حوارته:" الحضور العقلي عند فاتن يطغى على حضور الجسد"، فنتعرف كيف عزفت فاتن سوناتا التغيير في أدوار لونت الصورة بتنويعات أبهى وأقوى.
المثير في شخصية ليلى أنها فتاة عادية، رسمتها الكاتبة لطيفة الزيات في روايتها الشهيرة التي تحمل نفس عنوان الفيلم، كفتاة تخرج من رحم مجتمع ذكوري، ازدواجي يتدنى في تعامله مع النساء، ليلى نموذج لفتيات عصرها، ضعيفة لكن لديها نزعة تمرد تصوّبها نحو الباب المفتوح على الانعتاق من مصير أُم خائفة، لا تملك سوى أن تُعنف ابنتها طوال الوقت وفق قاعدة: "اللي يمشي على الأصول ما يغلطش"، والانفلات من قبضة أب متجهم يصرخ فيها بمجرد أن يظهر على وجهها شبهة اعتراض، يقذفها بـ"الشبشب" لأنها شاركت في مظاهرة، على هذه الخلفية أصبحت ليلى شاهداً على نضوج فاتن حمامة ومفتاح تألقها، ليس لأنها بدت طبيعية، تشبه بدرجة كبيرة مؤلفتها في مرحلة معينة من حياتها، كانت تمور فيها البلاد بالأحداث السياسية الساخنة، وليس لأن البطلة كما المؤلفة أبصرت طريقها وتعلمت أن حريتها ألا تكون كما أراده لها الأخرون، أو لأنها ظهرت في فيلم عبر عن التنامي في التعامل مع المرأة بشكل معمق خصوصاً بعد ثورة يوليو 1952، هذا التنامي الذي بدا في أبهى صوره في الستينيات، لكن أيضاً لأن "فاتن" الممثلة تخلصت من الصورة المستعارة أو بالأحرى من الأدوار النمطية، إرثها من البدايات في زمن تسيد الميلودراما وتكرار دور الفتاة الفقيرة الكسيرة المعذبة، أو العزيزة التي أذلها الزمان: "أنا بنت ناس يا ناس" (أفلامها مع حسن الإمام مثالاً)، ثم الرومانسية، الوديعة، الحريصة على صورتها المحافظة في عيون جماهيرها، فهي هنا نهضت من قاع حواديت البكاء إلى عالم الواقع بقضاياه الأوسع، ركضت ليلى على رصيف محطة القطار لتلحق بحبيبها ورفاقه، كي تحارب معهم في بور سعيد، متجاوزة كل مخاوفها ومحاولات تنميطها في تحد واضح لسلطة الأب المتشدد والخطيب المتزمت والتقاليد التعيسة.
لم تكن ليلى هي الشخصية الوحيدة التي تشظت على حدودها الصور القديمة، فمن خلال نحو 97 فيلماً آخرهم أرض الأحلام (1993 – هاني فوزي – داود عبدالسيد)، منحتها مكانة بارزة في المشهد السينمائي العربي، وكرست لنجمة صاحبة صورة مثالية في عيون جماهيرها؛ كانت كالفراشة تغير ألوانها، وتتخلى تدريجياً عن ملامح الصورة القديمة، فقبل ليلي بطلة "الباب المفتوح"، تجرأت فاتن وصدمت جمهورها حين جسدت شخصية نادية لطفي بطلة فيلم "لا أنام"، 1957 عن رواية إحسان عبدالقدوس وإخراج صلاح أبوسيف ( تخلت فيه عن قناع البراءة والعذوبة، لترتدي قناع اللؤم والمراوغة كمراهقة تحركها غرائز شيطانية)، فيما تعاطف الجمهور مع نوال في "نهر الحب" 1960 ، عن رواية أنا كارنيننا للروسي ليو تولستوي ومن إخراج عز الدين ذو الفقار، إذ لم يروها امرأة خائنة وإنما مُحبة ومكبلة بمصير لم تختره، هذا التباين بين القديم والجديد كان صنع أبعاداً خلاقة ومناهضة في الصورة، لعل هذا ما عبر عنه الكاتب أحمد بهاء الدين حين قال عن فاتن: "ويمكن للمرء أن يشم موهبتها من بعيد"، ونلحظه مثلاً في "الطريق المسدود" (1958) إخراج صلاح أبوسيف، فتاة تبحث عن ذاتها، رافضة حياة الفساد في أسرتها ومجتمعها، ومناصرة للثوار في "لا وقت للحب" (1963) لصلاح أبوسيف عن قصة يوسف إدريس.
على صعيد آخر تخلت عن المدينة وارتدت جلابية الفلاحة في زمن أصبح لديه وعياً شعبوياً مختلفاً، غنى فيه عبدالحليم المواويل الشعبية بعد صعود نجم محمد رشدي في هذا اللون، على هذه الخلفية قدمت فاتن شخصية أمنة البدوية في "دعاء الكروان" 1959، رواية طه حسين وإخراج هنري بركات، نقطة تحول في مشوارها، خصوصاً وأنه قبل التصوير دعاها الدكتور طه حسين لمقابلته وقال لها بسخرية: وانت تقدري تفهمي دور آمنة؟، قالت فاتن: فهمته كويس. هز طه حسين رأسه بسخرية، فخرجت فاتن من عنده باكية وقالت لمنتج الفيلم: لماذا اخترتموني لهذه البهدلة؟، وتم تصوير الفيلم وحضر د. طه حسين العرض الخاص مع أسرته، وفوجئت فاتن به بعد انتهاء العرض يقول لها: إن خيالي وأنا أكتب آمنة هو بالضبط الذي فعلته أنت.
كانت قدمت قبله الفلاحة الصعيدية زبيدة في فيلم ابن النيل (1951 – يوسف شاهين)، كنموذج مقهور مستسلم لمصيره الذي يتغير إلى الأفضل في نهاية الفيلم، على العكس من نموذج عزيزة في "الحرام" (1965) رواية يوسف إدريس وإخراج بركات، عاملة التراحيل التي تسقط تحت ضغط الحاجة، حين يعتدي عليها صاحب الأرض وهي تسرق جذر البطاطا لزوجها المريض، تموت عزيزة إثر الحمي بعد مولد الطفل الحرام فيما يشبه الانتحار خاصة بعد ما قتلت طفلها، ثم اتسعت التباينات في الصورة بحضور نعمة في أفواه وأرانب (1977 – إحسان عبدالقدوس – بركات)، نعمة لم تمتلك لحظة تنوير لتغيير وضعية المرأة، بل أنها رسخت وضعية الخادمة التي تعلو في ظل الرجل الثري، أما دورها في "الخيط الرفيع" 1971 ، تعاون أخر بين إحسان عبدالقدوس وبركات، فيظل ذروة الجرأة بالنسبة لها ويشكل خطاً بارزاً في صورتها الإبداعية غير الكلاسيكية، حتى أنه يسجل فاتن حمامة أول من صرخ في السينما المصرية بعبارتها الشهيرة "يا ابن الكلب".