التصريحات التي يطلقها بعض رجال الدين في أوروبا ضد الإسلام، ليست نقدا للإسلام السياسي وممارساته العنيفة، كما كانت من قبل لكنها تحولت لنفي الآخر و عدم الاعتراف به. وتلك إشكالية كبرى تستحق التوقف عندها طويلا للنقد والتحليل. إن تلك التصريحات المسيئة لدين أو معتقد تخالف ما جاء في الأديان الكتابية وما تضمنته وثيقة مجمع الفاتيكان الثاني (1962-1965) بالاعتراف بعقيدة خلاص غير المؤمنين وإقرار الحوار بين الأديان.
كما أنها تعني عدم القدرة على تحمل الرأي الآخر، وإثارة سبل الانقسام والعداء بين الناس. وهل يعلم أي رجل دين مهما كانت رتبته أو درجته أو منزلته ان الاختلاف قانون الهي يتطلب تعايش الناس قبل اختلافهم؟ ..
لقد رسمت الأديان طريقة التعامل مع المختلفين في الرأي، بالدعوة للتسامح والحوار، ليس من الضروري الإيمان بعقيدة الآخر، ولكن التعايش معه والتعارف والتفاهم والاستعداد للتواصل رغم الاختلاف. ما الذي يستفيده اتباع دين من الهجوم على عقيدة ودين آخر؟ وما الذي تستفيده البشرية من إقصاء رأي المخالف أو تكفيره؟
إن النتيجة لذلك العمل لن تجلب خيرا ابدا، بل ستزيد العداوة والتوتر بين الإنسان وأخيه الإنسان. إن أول الناس الذين تقع عليهم مسؤولية الدعوة للتنوع والتعدد باعتباره قانونا إليها هم رجال الدين والعلماء والمسؤولين عن الخطاب الديني في الشرق والغرب، وضرورة توعية وتثقيف الناس بأن الاختلاف يستوجب تعايش كل الفرقاء، حتى يسود الأمن والسلام في العلاقات بين الأمم والشعوب والثقافات والمذاهب والملل والقوميات.
لا يوجد دين، أي دين يدعو للبغض والكره تجاه الآخر المخالف للرأي. فلو شاء الله لجعل الدين صيغة واحدة لا تحتمل الخلاف ولكنه رحمة بالناس جعلهم مختلفين، لاختلاف طبيعة البشر والكون واللغة والحياة. وهؤلاء المتشنجين أصحاب نظريات حروب الحضارات يريدون صب الناس في قالب واحد وحضارة واحدة. نعم هناك أخطاء بشرية في تأويل أتباع أي دين للنصوص نفسها، واتخاذها وسيلة لتبرير العنف والقتل و التخريب والدمار باسم الدين، ولكن ذلك لا يعني عدم الاعتراف بوجود هذا الدين أو ذاك. فكل دين أو جماعة بشرية لديها صالح وفاسد ومصلح ومفسد و بناة وهادمون، فلا يجوز أن يدعي طرف أنه يملك الحقيقة المطلقة والطريق الواحد للجنة. وأن غير المؤمنين بهذا الطريق الواحد مهما عملوا من أعمال وطنية وقدموا خدمات لبلادهم أو أوطانهم الأوربية الجديدة لن يدخلوا الجنة. وهذا كله إعادة لعصور عقيمة من صكوك الغفران ومفاتيح الجنان انتهت و انتهى معها حكم رجال الدين والكهانات البشرية. وبرز عصر العقل والتفكير النقدي والحوار والتفاهم بين أتباع الأديان. اقول لهؤلاء الذين يفتحون الماضي بكل أساطيره وهواجسه لتكن تصريحاتكم مكانها جلسات علمية مع المستشرقين والباحثين في علم اللاهوت ومع رجال الدين، وليكن حوارا حول كل الهواجس و محاولة للتعارف وإزالة الصور النمطية المشوهة لدى أتباع كل دين عن الآخر، و إعادة قراءة النصوص في سياقها التاريخي والزمني، والبحث عن المشتركات الإنسانية وما يجمع ولا يفرق. أفلا تعقلون؟