لم تتأخر مصر يوما عن نصرة القضية الفلسطينية منذ عام 48 ولم تدخر جهدا للدفاع عن حقوق الشعب الفلسطينى فى إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، ولا أحد ينكر الدور التاريخى للقاهرة فى نشأة منظمة التحرير واحتضان النضال الوطنى الفلسطينى لتحرير الأرض وتلاحم التأييد والدعم الرسمى والشعبى المصرى للقضية.
ورغم أن متغيرات كثيرة طرأت على العلاقات المصرية الفلسطينية، فى ظل حالة الاستقطاب السياسى والقومى لقادة منظمة التحرير من قبل قادة دول عربية أخرى لسحب البساط من تحت أقدام القاهرة، إلا أن القضية الفلسطينية ظلت الرقم الصعب فى السياسة الخارجية المصرية وفى الوجدان الشعبى المصرى رغم ما خسرته القضية فى تلك الفترة، خاصة فترة ما بعد اتفاقية كامب ديفيد فى نهاية السبعينيات وحتى بداية الثمانينيات.
جرت مياه كثيرة فى مجرى النهر المصرى الفلسطينى بل فى مجمل الصراع العربى الإسرائيلى وطرأت متغيرات داخلية سواء على الصعيد المصرى أو على العلاقات الفلسطينية الفلسطينية، ومع نشأة النزعة الوطنية على حساب النزعة القومية فى كثير من الدول العربية كان الانعكاس السبى واضحا على الجبهة الفلسطينية.. وتزايدت حالة الاستقطاب مع ظهور المد الإسلامى بطوائفه وحدث الانقسام الفلسطينى بين عدة فصائل، ووهنت القضية خاصة بعد وفاة قادتها التاريخيين وخاصة ياسر عرفات وخليل الوزير.
أخطاء كثيرة حدثت فى السنوات العشرين السابقة وكان أخطرها مع سيطرة الإخوان على الحكم فى مصر والمصير الأسود الذى كان ينتظر القضية الفلسطينية من خلال تصفيتها بأيدى الإخوان وبدعم من الإدارة الأمريكية ومباركة إسرائيلية.
فى رأيى أن ثورة 30 يونيو 2013 كما أنقذت مصر من مخطط ومصير الفوضى والدمار والتمزق، أنقذت أيضا القضية الفلسطينية من الانهيار ورقصة الموت الأخير مع الإخوان.. وبعد تولى قيادة وطنية مصرية الحكم عادت القضية الفلسطينية إلى تصدر المشهد السياسى الخارجى المصرى مرة أخرى وفى أدبيات الدولة المصرية، وحاولت القاهرة منذ 2014 استعادة التلاحم والوحدة الفلسطينية من جديد بين الضفة وغزة وتوحيد القيادة الفلسطينية.. ورغم ما حدث من القطاع إلا أن مصر لم تتخل عن الشعب الفلسطينى فى غزة وتفهم متطلباته الحياتية مع ضرورة تفهم متطلبات الأمن القومى المصري.
الارتباطات الأيديولوجية لحماس عطلت مسار الحل على المستوى الداخلى الفلسطينى وعلى مستوى القضية برمتها، واستفادت إسرائيل كثيرا من حالة الانقسام الفلسطيني، وحذرت مصر من استمرار هذه الأوضاع رغم تضررها كثيرا من القطاع وحماس ومع ذلك لا يمكن أن نبرر دفاع مصر ودعم مصر للشعب والقضية الفلسطينية إلا أنه من منطلق الأمن القومى المصرى.
فالخصوصية فى العلاقات المصرية الفلسطينية تختلف كثيرا عن علاقات كثيرة فى النظام الإقليمى العربى رغم حالة المد والجزر والصعود والهبوط فى العلاقة. فمصر تعتبر القضية الفلسطينية قضية ذات أولوية متقدمة فى أجندتها السياسية على المستوى الداخلى والخارجى.
الاجتماع الجارى هذه المرة فى القاهرة حضره حوالى 15 فصيلا فلسطينيا ولا مفر أمام الجميع سوى التضامن والتصالح والتكاتف لمواجهه التحديات الصعبة والتخلى عن التحالفات المعادية للأمن القومى العربى، والتوافق على الخطوات المقبلة لتعزيز المصالحة الفلسطينية وبحث الخطوات المقبلة لحكومة الوفاق الوطنى برئاسة رامى الحمد الله، التى من المقرر أن تبسط سلطتها بالكامل على غزة فى الأول من الشهر المقبل، إضافة إلى ملفات مهمة أخرى وهى ملف الحريات ومستقبل منظمة التحرير والانتخابات الفلسطينية وحكومة التوافق وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية الفلسطينية فى الضفة وغزة.
الإرادة السياسية وتصفية النفوس والنوايا الحسنة وإعلاء المصلحة العليا للشعب الفلسطينى فوق أى مصلحة ضيقة أو علاقات لم تجلب سوى الخراب هو الطريق الوحيد أمام القادة الفلسطينين.. تصالحوا تصحوا يرحمكم الله.
خلاصة لهذا البحث يمكن القول إن العلاقات الفلسطينية المصرية تمر بمنعطف دقيق، وحتى فى حالة عودة مصر لتأخذ موقعها القومى فى ريادة الأمة العربية فإن مفهوم البعد القومى ودور مصر لن يكون كما كان سابقا، حيث ستعطى مصر الأولوية لأمنها ومصالحها الوطنية، التى لن تتحقق من خلال التصادم مع تل أبيب وواشنطن بل من خلال التقارب معهما.
ومن جهة أخرى ومع أن مصر ترعى ملف المصالحة الفلسطينية إلا أن قدرتها على إنجازها باتت محدودة، بسبب ترسخ واقع الانقسام وظهور جماعات مصالح راغبة فى استمراره من جانب، ومن جانب آخر لأن إسرائيل لن تسمح بإعادة توحيد الضفة وغزة فى إطار سلطة وحكومة واحدة، ومصر لا تستطيع إجبار إسرائيل على تغيير موقفها، بالإضافة إلى ظهور قوى ومحاور عربية وإقليمية تنافس مصر على الملف الفلسطينى وعلى ملف المصالحة.