بحضورها تكونت صورة جديدة في فضاء السينما المغربية، هذا ما يمكن قوله ببساطة عن الصبية التي تجرأت وكسرت الأشكال التقليدية، حين قامت ببطولة فيلم "حب في الدار البيضاء" دون أن يشغلها السؤال: وماذا بعد؟!..
الصبية هي منى فتو التي لم تر نفسها أنثى مقيدة بالقواعد العتيقة البالية، وقررت رغم عمرها المبكر ألا تكون رقماً محجوباً في الردهات الخانقة، باختصار وجدت "منى" في قبولها فيلم حب في الدار البيضاء، فرصتها لترتب أحلامها بطريقة أخرى. كانت واثقة، منحازة بكامل إرادتها الى اختياراتها، حتى من قبل أن تخوض هذه التجربة وتعمل مع مخرج مثل عبد القادر لقطع، الباحث عن فتاة تستخدم عقلها أكثر من جسدها؛ وجه جديد يشبه سلوى بطلته الحرة، المتمردة، المتطايرة، المتلهفة على حياة مجهولة ولكنها أوسع من معيشة الحذر في مجتمعها.
وجد عبد القادر ضالته في هذه الممثلة الصغيرة بملامحها الواضحة، عيناها الواسعتان لا تخفف من الأمر؛ لكنها تطوّق من يواجهها وتجره إلى خرائط مجهولة، صادفها في المسرح حيث جاءته من عالم الهواية والاحتراف معاً، الصغيرة التي شغفت بالتمثيل وشاركت في عروض مدرسية، ثم التحقت لدراسته بالمعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي بالرباط، وبالموازاة كانت تتابع دروسها المسائية في الرقص الشرقي، ثم دراستها الحرة في تصميم الأزياء، تركيبة مدهشة كان من الصعب أن تفلت من مخرج عميق وطموح مثل عبد القادر لقطع، أراد أن يرصد نوعاً من التحولات الاجتماعية في بلده، وأن يسعف أحلامه بتجربة جديدة تدوّن مصيراً مختلفاً للسينما المغربية، فبقدر جرأته في النص والموضوع والتراجيديا التي لعبت بأفراد وأزاحت الستار عن مجتمع يعيش تناقضاته عند مفترق من التحولات القيمية بدأت تتسرب إليه، كانت كذلك صورته متحررة من خرافة الأفكار الثابتة وتعمل على تشغيل حواس الرؤية والسمع عند المتفرج.
صورة متعددة الأبعاد مثل نصه الذي يتحرك على الخط الرفيع بين الواقع والمتخيل في مدينة الدار البيضاء، حكاية حب ثلاثية؛ فتاة بين أب وابنه، "امرأة بين زوج رجال - رجلين"؛ كما قال الابن بالدارجة المغربية في حواره بالفيلم، حين تحدث عن قصة فيلم آخر هو الشهير "كازابلانكا" الذي أخرجه مايكل كورتيز في العام 1942، يحمل اسم المدينة؛ لكنه لم يطأ قدماً فيها وصُوِر بالكامل في ستوديوهات هوليوود، يعني مدينته خيالية بنظرة استشراقية تحكي موضوعاً مختلفاً عن مدينة عبد القادر لقطع التي ظهرت شكلاً وموضوعاً وروحاً وحتى صوت شوارعها الصاخبة، حميمية وحقيقية بمشاكلها وواقعها المتخبط.
كما كانت الدار البيضاء سباقة في التطورات الاجتماعية التي حدثت في المغرب، كان هذا الفيلم فتحاً في السينما المغربية، وضع مخرجه في المواجهة مع "الحرس القديم" للماضي وللتابوهات ومنحه في ذات الوقت صفة المخرج الجريء الذي رد عليها في أكثر من موضع: "أنا لا أعتبر نفسي جريئاً وإنما أرى أن السينما المغربية خجولة"، ومن هنا كان فيلمه مفصلياً في تاريخ السينما المغربية الحديثة، فمن ناحية صنع علاقة جديدة بين الجمهور المغربي والسينما، ومن ناحية ثانية تعاقبت بعده أسماء أخرى لمخرجين ساروا على نفس الدرب، يفضحون المسكوت عنه بغرض الكشف والتعبير عن قضايا إنسانية، دون الولوج في إثارة مجانية مبتذلة.
حتى منى فتو، وإن لم تكن ابنة الدار البيضاء وإنما العاصمة الرباط؛ المدينة الأكثر تحفظاً، لكنها – فتو، منذ البداية كانت راغبة في التغيير وبدأته مع سلوى في "حب في الدار البيضاء"، حتى صارت في أقل من عشر سنوات لاحقة؛ نموذجاً للممثلة التي تكسر الحواجز، حضورها لافت، صارخ وطيفي هادئ في ذات الوقت، هدوء من ينفض عن ظهره حمل، بدا ذلك في "البحث عن زوج مراتي"( 1994) إخراج عبدالرحمن التازي، "عبروا في صمت" إخراج حكيم نوري في العام 1997 الذي شهد أيضاً "نساء ونساء" إخراج سعد شرايبي الذي شاركت معه كذلك في "العطش"،"غراميات الحاج مختار صولي" (1998) إخراج مصطفى الدرقاوي، أفلام كثيرة مغربية وفرنسية أكدت على توصيفها الذي لقبها به فيلمها الأول، "الممثلة الجريئة"، وصفها الذي تفخر به وتؤكده بقولها:" أنا جريئة لأنني أحرص على اختيار الأدوار الذي تحترم ذكاء الجمهور، من شأن الفيلم السينمائي أن يصل إلى شرائح مختلفة من المجتمع، ويمكنه أن يثير جدلاً بين صفوف الجماهير"..
منى فتو كما فيلمها الأول "حب في الدار البيضاء" وكما مخرجه وكما مدينة الدار البيضاء كذلك، كانت سباقة وفتحت الباب لأخريات تمردن على الصورة التقليدية وشاركن في أفلام تجلت فيها حالات مختلفة للمجتمع المغربي بين واقعه والمتخيل السينمائي الكاشف للخفي.
حضورها الآني يتنقل بين السينمائي والتليفزيوني، ويكمل صورتها الأولى كفنانة أدركت أنها كانت يوماً مفتاحاً للتغيير، عرف الجمهور منى فتو كممثلة ليست مجرد حسناء تسللت إلى مدائن الفن داخل حصانها الطروادي الذي يخطف الأبصار بجمال وجرأة تثير الجدل، لكنها مثلت بكل وضوح النموذج الجديد للنجمة المغربية الطالعة حينذاك، فالصبية التي جمعت الجمال والذكاء لم تر مطلقاً منذ إطلالتها الأولى أي تعارض بين حضور الصورة اللافت وبين قوة الموضوع الذي يزلزل مجتمع وينفض عنه اطمئنانه الساذج، واستطاعت أن تصنع هذا الفارق بين الحضور بالجسد وبالروح، فالجسد منذ دورها الأول لم يكن هو الموضوع، بل الأصل هو ذلك التشابك بين واقع مرتبك وخيال مشاكس، من هذه النقطة سعت منى فتو بجرأة نحو الضوء، لكنها كانت تعي جيداً أنها لا تحمل رغبات فراشة قصيرة العمر، وتعاملت مع الضوء بحنكة من تريد الحياة طويلا والأهم من تريد النجاح طويلاً.. طويلاً.