ليست هى المرة الأولى التى يذهب فيها شيوخ وقساوسة إلى أماكن ملتهبة بالاحتقان الطائفى، وليست هى المرة الأولى التى يسمع فيها مسلمون ومسيحيون إلى خطب دينية إسلامية ومسيحية تحض على التسامح والأخوة فى الوطن، وليست هى المرة الأولى التى تحتشد الأجهزة التنفيذية من أجل تطويق أزمة بين مسلمين ومسيحيين، وليست هى المرة الأولى التى نستمع فيها إلى أن جلسة عرفية ستتم بين الطرفين، تنتهى بتبادل القبلات، وكلام معسول عن الأخوة، وكأن شيئا لم يكن.
انتفض الجميع ضد ما حدث لسيدة مسيحية قام مسلمون بتجريدها من ملابسها فى قرية الكرم بمركز أبوقرقاص محافظة المنيا، ولا يحتاج الأمر إلى تأكيد بأنها ليست الانتفاضة الأولى بسبب فعل ما وقع بين مسلمين ومسيحيين، فتنشيط بسيط للذاكرة سيؤدى إلى استعادة أحداث طائفية حدثت منذ مطلع سبعينيات القرن الماضى، سقط فيها قتلى، وخلفت من ورائها جروحا غائرة، وهل نسينا قتل مسيحيين فيما يعرف بأحداث الخانكة عام 1972، وهل نسينا قتل 19 مسيحيا فى الكشح بسوهاج عام 1999؟، وهل نسينا تفجير كنيسة نجع حمادى؟ وكنيسة القديسين بالإسكندرية فى أول يناير 2011؟، وهل نسينا بعد ثورة 25 يناير نوم الناس على قضبان القطار فى محافظة قنا، لرفضهم تعيين محافظ مسيحى، وانتهى هذا المشهد المخزى بسحب المحافظ؟، وهل نسينا الاشتباكات التى تمت بين المسلمين والمسيحيين فى قرية دهشور بالبدرشين بسبب إنشاء كنيسة، وتفجير كنيسة الوراق عام 2013؟
هذه عينة بسيطة من مجمل حوادث كثيرة، والتذكير بها هو حمال أوجه، فهناك من يرصدها للتدليل على اضطهاد الأقباط، وهناك من يستدعيها للتدليل على أن هناك شيئا ما خطأ فى السياسات العامة، غير أنه من المفيد التذكير بأنه كان يحدث كل أنواع التجييش بعد كل مصيبة من هذه المصائب، فيدلى كل بدلوه، يتحدث الشيوخ، ويتحدث القساوسة، وتتحرك الأجهزة، وقبل أن يندمل الجرح تتكرر المصيبة مع اختلاف أبطالها ومضمونها، مما يستوجب السؤال: لماذا؟، وهل كل الجهود التى يتم بذلها لا تؤتى بثمارها؟.
البعض يستريح لنظرية المؤامرة، فيفسر الأمر على نحو أن هناك من يتربص بالوطن، وأن كل خلاف بين مسلمين ومسيحيين هو من صنع الخارج، لأن هذا «الخارج» لا يريد لمصر الاستقرار، وراج هذا التوجه خصوصا أيام نظام السادات ومبارك، وكان دافعه صرف الأنظار عن أى أخطاء سياسية داخلية تقود فى نهايتها إلى كوارث طائفية.
والبعض اعتبر أن العديد من هذه الحوادث التى وقعت فى عهد مبارك كانت من صنع أجهزته الأمنية لتبرير القبضة الأمنية، وجرى بعد ثورة 25 يناير كلام كثير حول مسؤولية اللواء حبيب العادلى وزير داخلية مبارك عن تفجير كنيسة القديسين، إلا أن هذا الكلام لم يتم إثباته على نحو قاطع، واختفى تدريجيا ولم نعرف حتى الآن من هم الذين ارتكبوا هذه الجريمة.
من بين كل تفسيرات الحوادث الطائفية يبقى التفسير الأهم وهو أن الطائفية فى كل حالاتها شأنها شأن كل مرض ينخر كالسوس فى المجتمع وهو انعكاس لسياسات قائمة، فغياب تطبيق القانون تطبيقا عادلا يؤدى إلى الطائفية، وتمكن الفساد من مؤسسات الدولة يؤدى إلى الطائفية، وغياب الهدف القومى الذى يقف المصريون وراءه يؤدى إلى الطائفية، وغياب الديمقراطية بأسلوبها الصحيح يؤدى إلى الطائفية، وغياب الحياة الحزبية وضعف الأحزاب يؤدى إلى الطائفية، ولو دققنا فى حادثة قرية الكرم سنجدها إفرازا لهذا الغياب.
كما سنجد الإجابة على سؤال: لماذا تتكرر مثل هذه الحوادث رغم القوافل الدينية والإعلامية والتنفيذية؟