"على الناس أن يفهموا أولاً أن هذا مرض وليس رذيلة"، هكذا قالت الأمريكية اندرا داي الحائزة على جولدن جلوب أفضل ممثلة، وواحدة من أقوى المنافسات على جائزة أوسكار عن دور أيقونة موسيقى الجاز بيلي هوليداي فيلم "The United States vs. Billie Holiday "الولايات المتحدة ضد بيلي هوليداي" إخراج لي دانيالز، ردت اندرا على إشارة حسام عاصي في برنامجه "بي بي سي سينماتيك" عن إدمان بيلي هوليداي للمخدرات، بوعي ورهافة حس يساوي إدراكها لكل الأبعاد الإنسانية، وبنفس المنظور أجابته أيضاً عن سؤاله لماذا لم توقف بيلي هوليداي استغلال الرجال لها، على الرغم من أنها امرأة تمتلك نفوذاً؟.. حيث قالت: بالنسبة لكثير من النساء، بقدر ما هو محزن، فإن الإساءة تم تطبيعها، نحن على دراية واسعة بالاعتداء الجسدي والاعتداء الجنسي واللفظي والعاطفي، وبالتالي أشعر أن الأمر بالنسبة لها لم يتعلق بالنفوذ، كان فقط جزء من الحياة".
إنها الملاحظة الذكية من اندرا المغنية النابهة، لكنها الملاحظة التي اعتصرت قلبي لما حملته من إيحاءات قاسية، وهو نفس ما حدث لي حين تعرفت على صوت بيلي هوليداي (1915 – 1959) لأول مرة حين كنت طالبة بالجامعة، فحتى هذه المرحلة العمرية لم أكن تعرفت على صوت مغنية الجاز السمراء الأسطورية، لا كنت سمعته ولا فقهت الكلمات التي يتغنى بها هذا الصوت المرهف ولا حتى خبرت موسيقاه أو فهمتها، أنا التي لم تعتد سماع الأغاني الأجنبية بشكل عام، بينما استغرقت في الموسيقى العربية إلى حد كبير، إذ تغافلت عن كل ما هو خارج العربية، وظللت في هذه الغفلة إلى أن قرأت رواية اللبنانية حنان الشيخ "بريد بيروت"، هذه الرواية التي تفيض بوجع ومعاناة، شغف وافتتان، مشاعر متباينة عاشتها بطلتها "أسمهان" على خلفية الحرب الأهلية اللبنانية، وفيها تكتب رسائل إلى الأشخاص الذين شكلوا وجدانها، ترصد فيها الأحوال الشخصية والعامة إثر الحرب، من هذه الرسائل هي ما وجهته إلى بيلي هوليداي في فصل كامل من الرواية، تحكي لها مشهدية الحرب وكيف غيرت ضيعتها، وتربط بين بيلي المغنية بعينيها القادحتين، تلك المرأة غير العادية التي أدمنتها، حسب تعبيرها، وبين روحية المرأة الجريئة، المغامرة في الضيعة، وترى أن الاثنتين بشخصيتهما وصوتهما "كأنهما تربة فيها جذور نبات القطن والشوك"، تشابك بينهما يكشف عن حساسيتهما الاستثنائية تجاه العالم وناسه، تحسمه حنان الشيخ حين قالت لهما: أنتما من الأرض.. أنتما من أمهات الأرض".
وأنا الآن متحررة من التصنيف، عربي وأجنبي، صرت من المفتونين بصوت بيلي هوليداي وأسلوبها، ليس فقط وفق الطريقة التي خاطبتها بها حنان الشيخ في روايتها أو حسب صورتها في الفيلم الذي يدور في أربعينيات القرن الماضي، متناولاً استهداف الـ"إف بي أي" للمغنية لمنعها من أداء أغنية Strange Fruit“ / ثمار غريبة" التي تواجه فيها عمليات شنق الحركات العنصرية للسود في أمريكا وتعليق جثثهم على الأشجار، أو حسب طريقة تقديمها في فيلم سابق مثل "السيدة التي تغني البلوز/ Lady Sings the Blues" (1972) إخراج سيدني جيه فيوري، وأدت دورها فيه المغنية الأمربكية السوداء "ديانا روس" التي رشحت عنه لنيل جائزة أوسكار، وإنما إضافة إلى كل ذلك، استهوتني هذه المغنية البادية الحزن والشفافية، اجتذبني هذا المزيج المثير من الأنين الصارخ والرقة الحنونة، لونها هو لون الحقيقة الساطعة في مجتمعها الغليظ، صوتها شكل من أشكال الدفاع عن جوهرها، وهذه عبقريتها في رأيي.
أتصور أن هذا ما استوعبته اندرا داي في تجسيدها لشخصية بيلي في فيلم "The United States vs. Billie Holiday "الولايات المتحدة ضد بيلي هوليداي"، الذي تم عرضه على منصة Hulu ، بحرفية المطربة التي اختبرت الغناء على المسرح ومواجهة الجمهور، وقبلهما الإحساس بالموسيقى وبالحالة الغنائية بما يكتنفها من مشاعر وعواطف متشابكة، الأمر يبدو شكلياً سهلاً بالنسبة لمطربة محترفة، لكنه معقد لأنه يتطلب مهارة المتيقظين وولع المغرمين، من هذه النقطة إنطلقت اندرا داي حسب ما عبرت في مقابلتها مع BBC:"أصبح الأمر حول تقمص صوتها وليس نبرة صوتها وحسب، بل وأيضاً السبب في أن نبرتها كذلك، والقصة التي كانت ترويها نبرتها وصوتها الغنائي".
أدت اندرا الشخصية بتمكن النساء اللواتي يحسسن بأوجاع بعضهن البعض، فكان خوضاً حميماً في حياة بيلي هوليداي التي عانت أشكالاً من القسوة ، أفضت بها إلى الموت في النهاية، كان الموت هو الحد الفيصل لخروجها من معركة نضالية خاضتها بأغنيتها " Strange Fruit“ / ثمار غريبة"، سأل مذيع BBC ، لي دانيالز مخرج الفيلم: "كيف أفلتت بيلي من المكارثية؟"، فأجابه ببساطة مريرة:"ماتت!"، أحسب أن رعب الجمال والصدق هما السمة الأساسية في أغنيتها هذه التي كتبها الشاعر اليهودي الشيوعي أبيل ميروبول، غزت فيها القلوب والعقول، وأفسحت المجال للسؤال: هل يصنع الحزن والقهر صوتاً جميلاً؟ أظنه أن الحزن يُضيف إلى الصوت الجميل، تلك اللوعة التي ميّزت صوت بيلي، فيه هذا المد للكلمة المغناة الذي يفهمه السود جيداً ويعبر عن دواخلهم السحيقة المنسوجة بالعذاب، تغني: "أجساد سوداء تتدلى، تتأرجح مع ريح الجنوب / ثمار غريبة تتدلى من أشجار الحَوْر"، إنها تلعب بالكلمات، تجعل القلوب تتلوى معها ومع الأغنية الخالدة التي ما زالوا يرددونها حتى الآن في مناسبات عدة، منها الاحتجاجات ضد الشرطة الأمريكية عقب مقتل الأمريكي الأسود جورج فلويد في العام الماضي.
إنها أغنية نضالية إذن، أو على حسب الكاتب في مجال موسيقى الچَاز (لينارد فيذر – Leonard Feather): "كانت أول صرخة ضد العنصرية يسمع صداها بحق"، استحقت الخلود بقدر ما ناهضت بها صاحبتها الظلم والعنف العنصري، وتحدت القائمين عليه ومنهم هاري آنسلينجلرمفوض المكتب الفيدرالي للمخدرات والعقاقير، العنصري الذي فشلت تهديداته أن توقف بيلي هوليداي عن غناء تلك الأغنية، فنصب لها فخاً، سجنت على إثره، ثم ماتت عن عمر يناهز 44 عاماً.
أربعة وأربعون عاماً، عمر قصير لحنجرة حميمة، أشاعت الكثير من البوح العالي والحب الحقيقي والشكوى الشجية، كانت بيلي جميلة وذات صوت جميل، أطلت على جماهيرها محاربة، صلبة، رحيمة، مشرقة تعطيهم من صوتها أفضل ما فيه، أما ملامح وجهها السمح فكانت تعلوه النظرة الهائمة أثناء الغناء وكأنها تقتنص لحظة خاصة أو تبحث عن نقطة في داخلها.