عكست الدورة الثالثة والعشرون للمهرجان القومي للسينما المصرية برئاسة الناقد كمال رمزي، حالةً ثقافيةً ونمطاً شديد الخصوصية، سيما أنها دورة تضمنت إنتاج ثلاث سنوات متتالية، وذلك لتوقفها مرتين؛ إحداهما بسبب رحيل المخرج سمير سيف الرئيس السابق للمهرجان والذي تحمل هذه الدورة اسمه تحت شعار "نسيم الروح"، والأخرى بسبب وباء كورونا الذي اجتاح العالم وتعثرت أحوال السينما عموماً بسببه.
نحو 170 فيلماً شاركت في هذه الدورة، الأفلام الروائية الطويلة تباينت بين أفلام قليلة طموحة وأفلام أضعف في طموحها ومستواها الفني، حتى بدت الأفلام الفائزة منها، والمندرجة غالباً تحت جناح السينما المستقلة، كأنها خرجت من فم الأسد في ظل الإنتاج السينمائي الهزيل بشكل عام، في مقابل ذلك فإن هناك تجلي نوعي ظهر واضحاً في الأفلام الروائية القصيرة والوثائقية، هذا غير أفلام التحريك التي جاءت متميزة بشكل مثير للتساؤل في الوقت الذي أصبح فيه التحريك فيه جزءاً أساسياً من صناعة الصورة الفنية الجديدة، فلم يعد تقليدياً كما كان متبعاً من قبل في صناعة الرسوم المتحركة، فثمة تطور فني وتقني لافت منذ سنوات عرفه فيلم التحريك، تبدل إبداعي في التقنيات والخيال سوياً، ما منحه جمالية خاصة في تناوله لموضوعات تهتم بالواقع الإنساني وتفاصيله المختلفة، بشكل جعله يخرج من الحيز التقليدي كفيلم موجه للصغار، إلى أفق إنساني أكثر إتساعاً قد يجذب فئات جماهيرية مختلفة، ويفتح مجالاً للبحث والمناقشة والجدل.
تميزت أفلام التحريك في هذه الدورة بانفتاحها على تجارب فنية وتقنية ودرامية متنوعة، إذ قدمت الأفلام المشاركة أشكالاً مختلفة من التعبير، ومهارة سينمائية في معالجة مضمونها، أفلام عكست رغبة في التجديد الشكلي والموضوعي ولم تكن أسيرة مدرسة معينة، مثالاً على ذلك نجده في أفلام التحريك الثلاثة الفائزة بجوائز المهرجان، وهي: جائزة انطون سليم للعمل الأول "Bubble” 2019) إنتاج المعهد العالي للسينما) تحريك وإخراج محمد سعد محمود حماد، يطرح الفيلم في ثلاث دقائق ونصف رؤية أخرى للواقع الإنساني، حيث يظهر شعاع مجهول المصدر في عالم مثالي، فيثير فضول سكان ذلك العالم فيتجهوا إليه غير عالمين ما المصير المنتظر لهم، إنه مصير قاس كانوا يجهلونه، لكنهم وقعوا في فخه، تحول صعب يقدمه الفيلم في صورة أقرب إلى الانتقادية، ما يجعل المتلقي يشعر بحساية الموضوع ويصل به إلى سخرية النفس من الواقع المحيط الذي يشبه هذا التحول العنيف، لينضم هذا الفيلم إلى مجموعة الأفلام المصنوعة بشكل تقني جيد وبحساسية إنسانية واضحة، مشحونة بشيء من الغموض الشكلي والدرامي، لكن لديها ميل إلى ابتكار صورة سينمائية معبرة.
"السيد بنفسجى" (2019)، إنتاج المركز القومي للسينما، سيناريو أحمد عبد الرحيم وإخراج أسامة أبو زيد، الحائز على جائزة لجنة التحكيم والذي يدور في عشر دقائق حول حرية الإختيار، وصراع الفرد للإفلات من السجن الجبري لأفكار الأخرين الذين يحاولون أن يحاصرونه بين جدرانها، وينتهي بأن التنوع والاختلاف يغير الحياة ويجعلها أجمل، فـ"السيد بنفسجي" متحرر من سجن المادة وكل ما يمكن أن يأخذه إلى متاهة الفراغ الروحي أو دهاليز الوجع والألم، مشغول بزهوره وشغفه بالحياة، لذا فإن الحيز الذي يقف فيه يشيع بهجة وألوان، بينما خارجه يسيطر عليه الأبيض والأسود، لونان لهما حضور سلطوي مثل سلطوية الفريقين اللذين اختطفاه، كلا يريده على أرضيته، أنقذه منهما زهرته، بنفسجته، اختياره للحيوية الذي حوّل الحياة إلى مزيج من الألوان المبهجة.
أما Shattered”" (2019 إنتاج المعهد العالي للسينما)، الفائز بأفضل فيلم تحريك، فهو مختلف درامياً، نرى هذا الاختلاف في ثلاث دقائق مثيرة لسيناريو وتحريك وإخراج كريم سلطان، ونلمس إنشغاله بنوع من الهم الإنساني، محرك للتساؤلات حول المصير، من خلال فتى يحبس نفسه في حمام صغير كأداة لتكيف مما يمنحه وسيلة للهروب من ظروف حياته البائسة، فيلم تتنازعه رغبات وهواجس مغايرة، إن أهميته كامنة في حبكته الدرامية، وفي حرفية تقنية واضحة تمثلت في التقارب الكبير بين الخيال الكرتوني والواقع الفعلي للعالم البشري، وهذا أمر مذهل من ناحية الطموح الشبابي لصانع الفيلم كريم سلطان الذي يطرح نفسه بشكل مغاير يتجاوز حداثة سنه وهو خريج المعهد العالي للسينما في العام 2019، وإن كان يلائم شغفه السينمائي الذي نتمناه أن يستمر.
الأفلام التسجيلية الفائزة في هذه الدورة تعكس جانباً مهماً من رغبة تطور هذا النوع السينمائي، متحررة من النمط الكلاسيكي، بما يلائم تطوره الفعلي سواء في السينما العربية أو العالمية، وبما يحمله من تأثيرات جمالية شكلاً ومضموناً، فمثلاً "الكيلو 64" (2018) إخراج أمير الشناوي، الحاص على جائزة سعد نديم للعمل الأول، يدور في 15 دقيقة حول صيدلى شاب يدفعه طموحه ليبتعد عن مجال دراسته ويتجه لزراعة الصحراء متأثراً بروح ثورة يناير، لكن سرعان ما يصصدم طموح هذا الشاب بالكثير من الصعوبات خلال رحلته، أسلوبه وتكنيكه الفني يتخذ بعداً يؤكد أن الفيلم التسجيلي أو الوثائقي لم يعد مجرد تحقيق تلفزيوني يتناول حدثاً ما فيقدمه بشكل أشبه بالمباشر الخبري، بل إنه مزيج إبداعي من الصورة والموضوع كشكل سينمائي أصبح مؤثراً بطريقة أو أخرى في حضوره وتقديمه لأفكار من رحم الواقع، كاشفة للتحولات والتغييرات، وهذا ما عبر عنه كذلك فيلم "رسالة إلى والدي" (2018) إخراج لؤي جلال، والفائز جائزة أفضل فيلم تسجيلي حتى 15 دقيقة، حيث تعرض لقضية حيوية وشائكة عن امرأة فى السابعه والعشرين من العمر أجبرها والديها على الزواج قبل بلوغها الثانية عشرة سنة.
بينما فيلم "عندما يرضى الناس" (2020) إخراج محمد حسنى ياسين، الفائز جائزة لجنة التحكيم للأفلام التسجيلية حتى 15 دقيقة، فإنه يتوغل في فضاء مماثل ينقل وقائع العيش في جزيرة لسكان يعيشون في معزل عن العالم، حيز لبحث سينمائي في أحوال الناس، إذ يلتقط نبض مختلف يصنع نصاً بصرياً يحاول أن يسعى لإجابة عن سؤال كيف تكون نهاية المطاف بالإنسان عندما يرضى؟..
في حين طرح فيلم "المتاهة" (2020) إخراج حنان راضي، الفائز بجائزة لجنة التحكيم للأفلام التسجيلية أكثر من 15 دقيقة، سؤال آخر يعيد رسم ملامح الجغرافيا والروح، عبر تتبع أمير المرشد السياحى من محافظة الأقصر كانت حياته عادية حتي عاش تجربة روحية قلبت حياته رأسا على عقب، أما فيلم "رمسيس راح فين" (2019) إخراج عمرو بيومي الحاصل على جائزة أفضل فيلم تسجيلي أكثر من 15 دقيقة، فإن أسئلته لا تنتهي ولا تتوقف عند النظرة المباشرة لنقل تمثال رمسيس الثانى من ميدان رمسيس إلى مكانه الجديد فى المتحف الكبير، وإنما الأمر أبعد وأعمق، يتوغل في تشعبات المدينة، شوارعها وحجارتها وناسها وتفاصيلها، صور فيها من البهاء الجمالي ما ينبض بسمات إنسانية وحياتية واجتماعية في وطن، هذه المدينة التي يتجول فيها تمثال رمسيس، هي حيزه الجغرافي الطاغي بقصصه وحكاياته، ملتقى التاريخ والمصائر، والعلاقات المتداخلة بين الحب والنزاعات الخفية، التصادم الداخلي في جسد المرء وروحه، بين قسوة الموروث وقوة الانفعال الذاتي إزاء مشاعر ورغبات.
الروائي القصير "إفعل شيئاً يا حامد" (2019) سيناريـو وإخراج سيد عمر، الفائز بجائزة شادي عبد السلام للعمل الأول، يطالعنا في نحو 18 دقيقة عن هذا الشاب الثلاثيني الذي يدعى حامد الخامل، غير المبالي، نراه يعيش بمفرده، معزولاً عن عالمه ومحيطه الخارجي سواء في العمل أو في البيت، حتى أنه لا يساعد جارته حين تدق عليه بابه مستغيثة في خلاف مع زوجها، تخترق هذه الجارة حياته وتدخل بيته، لكن تتوالى حياته بعد ذلك بنفس الرتابة والتثاقل وعدم الاكتراث.
الجماليات البصرية التي اشتغل عليها المخرج يوسف نعمان في فيلمه الروائي القصير "هذه ليلتي" (2019)، عمله الثاني الحاصل على جائزة لجنة لجنة التحكيم، وقبلها عدة جوائز دولية عن سيناريـو أحمد ايهاب عبد الوراث، جعلت فيلمه مؤثراً بما فيه من النبض الإنساني المفعم بالمرارة والقسوة، ومفتوحاً على أسئلة معلقة وملتبسة، فنرى في 15 دقيقة "عزة" التي تقرر الاستمتاع بيومها، بعيداً عن معاناتها الشديدة بسبب ذكورية وقسوة زوجها الواضحة وضعف وجهل أمها فى الحفاظ على حقوقها، تذهب رفقة ابنها المصاب بمتلازمة داون في مغامرة، وحينما تتجه من عشوائيات القاهرة إلى الأحياء الفخمة من أجل تناول المثلجات، تقابل العديد من المضايقات والعقبات في طريقها.
أما "مشوار" (2019) سيناريـو محمد فاروق – أحمد سمير وإخراج محمد فاروق في عمله الأول، الحاصل على جائزة أفضل فيلم روائي قصير، فإنه يقدم لوحة فنية في خمس دقائق، تدور أحداثها داخل سيارة ميكروباص، تختزل الوضع الإنساني العام في المجتمع المصري، صورة مكثفة تكشف نهج الحياة القائم على الخوف والقلق ومحاولات الفرار من هذا البؤس بلمسات إنسانية، فتاة تنكمش لى نفسها في مقعد السيارة، خشية التلامس الجسدي مع الشاب الذي يجلس بجوارها، والشاب يتعثر في قلقه على والده الذين ينقلونه إلى المستشفى في هذه اللحظة، فتاة أخرى تصرخ تمثيلاً للإفلات من لجنة مرورية، ورجل يحاول التقرب منها، وآخر يحاول أن يهديء من روع الجميع ويساعدهم، بينما السائق شديد التوتر والتوبيخ.
إجمالاً فإن الأفلام على تنوعها واختلاف قالبها الفني، تطرح أسئلة عدة متعلقة بالشكل المستخدم في معاينة الواقع والذات والتفاصيل، ينجزها أصحابها بتأمل وانفعال وحساسية خاصة، ويقدمونها كإضافة نوعية في صناعة السينما، وإن كانت تعاني من عدم اهتمام الكثيرين في مجتمعنا العربي الذي يفضل الأفلام الطويلة أو حتى مشاهدة المسلسلات التليفزيونية، لكنها تظل تجارب تحاول أن تذهب إلى الجديد المستلهم من الواقع بأنماط متعددة في التعبير البصري والدرامي المشرع على احتمالات كثيرة.