بعد يومين تحل ذكرى رحيله التي عاهدت نفسي منذ سنوات طويلة ألا تفوتني دون أن أكتب له ولو تحية بسيطة، لأنه إذا كان لابد من توصيف فليكن أنه عندليب يأبى يندثر، وأما اسمه فهو عبد الحليم حافظ الذي تمتليء به الذكرى وتتصدر أغنياته قائمة أعلى المبيعات على الرغم من مرور 44 عاماً على رحيله، صوت يسكن وجداننا بحنانه العميق الحزن، ورقته وليونته كما آلة الأبوا التي كان يعزف عليها بتمكن قبل اتجاهه الكامل للطرب، وصورة تبقى للحبيب الرقيق الذي يجعل الحياة حلوة كما في أفلامه التي لازالت أيقونات للرومانسية في السينما العربية وعنوان للحب يظهر في المناسبات، مع أن معايير قصص الحب اختلفت ولم تعد على سجيتها مثلما كانت في الحكايات القديمة، فكيف استطاع عبد الحليم أن يكون عابراً للزمن بأثره الغنائي والسينمائي؟ متجاوزاً حتى السؤال الذي روجته بعض الأقلام لسنوات طويلة، ربما استثماراً لجماهيرية حليم أو عجزاً عن استيعاب حساسية الجديد بكل ما يحمله من مواصفات عصرية يجد فيها الشباب ما يسد جوعه وحاجته للتعبير عن مشاكل جديدة ربما لا يفهمها أبناء الجيل السابق: هل خلت الساحة بعد رحيل عبد الحليم؟
.......
"تخونوه وعمره ما خانكم ولا اشتكى منكم
تبيعوه وعمره ما باعكم ولا انشغل عنكم
قلبي .. ليه تخونوه"
يتدحرج صوت عبدالحليم حافظ ويخمش قلبي، كما تتدحرج بنا سيارة المخرجة إنعام محمد علي، تخمش الأرض وتشقها في طريق عودتنا من الإسكندرية إلى القاهرة، ينتشر صوت البيانو في البداية ليملأ فراغات القلب قبل أن يسكنها صوت حليم المتقاطع مع موسيقى بليغ حمدي التي تعلو وتهبط فتظهر مساحات الوجع وامتداده في غناء العندليب، فيتهاوى حائط الوهم وندرك أن الكلمات التي كتبها اسماعيل الحبروك هي فقط أغنية نتشارك أنا وإنعام لنكون كورس يرد وراء عبدالحليم الذي يملأ الفضاء بصوته المتسلل من راديو السيارة، قاطعاً حديث الذكريات الساخن حيث كانت إنعام بدأت تسترسل في حكايات النوستالجيا والحنين إلى القديم.
راحت تتذكر يوم مات جمال عبدالناصر وكيف انكسرت القلوب وخرج الجميع إلى الشارع حتى أن الكثيرين لم يمنحهم الخبر المفاجيء فرصة تغيير ملابسهم المنزلية وخرجوا إلى الشارع بطريقة أقرب إلى الحجل كأنهم يجمعون روحهم المشردة أو يتلمسون من السماء وعداً بالنجاة بعد موت الأب وفقدان البوصلة، بينما كنت أنا أستمع إليها وتسحبني الحكايات الواحدة تلو الأخرى دون الوقوف على ضفاف وأجدني أشكو لها وأنا في غاية الدهشة كيف أن هناك ناس أولاد ناس طيبين من الفلاحين والبروليتاريا العاملة يرون أن أكبر خطيئة صنعها عبدالناصر وثورة يوليو هي مجانية التعليم!!
"قلبي اللى مهما يشوف منكم عايش بيكم
ويبعدوه الناس عنكم برضه شاريكم"
تتفرع بي كل الطرق ولا أتنصل من موجات الرومانسية التي أراها الهداية ويراها آخرون الضياع، وأقول: لي ما أريد، وأغنيات حليم وإن تكبر عليها البعض ورآها "ساذجة" أو "ميلودرامية" أو "غير مناسبة لزمننا" أو أية توصيفات أخرى لا تعنيني ولا تثنيني أنا "الدقة القديمة" عن أن أطلب ما يشبهني، وهذه الأغاني هي موطئاً للروح كما أنها تلون الحياة وتنعش القلوب، بالضبط كما قالت دراسات حديثة عن الأغاني العاطفية غير أنها جميلة فإنها تنفع أيضاً في إنعاش القلب العليل، فإيقاعها يجعل القلب يدق بمعدل 103 ضربات في الدقيقة الواحدة، المعدل الأمثل لإنعاش القلب والرئتين.
"لما الحب لعب بالقلب.. لعبت روحي بعز الحب
قلت يا قلبي كمان.. وانسى زمان وليالي زمان"
هنا أتذكر الحادثة الشهيرة التي جمعت بين عبدالحليم والنجمة صوفيا لورين في إحتفال أقامته سفارتنا المصرية في لندن، حين شاهدت صوفيا الهرولة تجاه حليم سألت: من هو؟ أجابوها: أشهر مطرب في مصر. فتوجهت نحوه وسألته عن نوعية ما يغنيه، فغنى عبدالحليم أغنية الحلوة، وبعدها لم تتمالك صوفيا لورين من الضحك وقالت له: هذه نوعية أغاني المراهقين في بلادنا، فأجابها العندليب: هذه أغاني الحب في بلادنا التي تحترم المشاعر وتقدرها وتمنح الحب حقه، فاعتذرت صوفيا على الفور.
"لو كنت يوم أنساك أيه أيه افتكر تاني؟"
لكن أحمد الله أن منحني نزعتي الرومانسية دون مرض يُعلقني على الغمام، فأفتح من حين لآخر باب المراجعة الهادئة حتى لا يزيد الشيء عن حده وينقلب إلى ضده: هل يأخذ عبدالحليم زمنه وزمن غيره؟ وهل يمكن أن تصلح أغانيه الوطنية للتعبير عن مشاكل الوطن في "الألفية الثالثة"؟ وبعد ثورات وانعطافات سياسية واجتماعية كبيرة؟ وهل يقتنع الشباب بكلمات من تلك التي غناها عبدالحليم في الخمسينيات أو الستينيات من "صافيني مرة" حتى"الشعر الغجري المجنون"؟ وهل رومانسية حليم هي نفسها رومانسية فاروق جويدة أو ليوناردو دي كابريو مثلاً في "تيتانيك"؟!
أسئلة تحترم نزوعي الرومانسي وقبله نجومية حليم التي أساء إليها بعضهم إعلامياً وتجارياً بشكل يذكرنا بما قاله نقاد الأدب عن شكسبير الذي تحول من مجرد مبدع كبير إلى صناعة شكسبيرية كاملة، هؤلاء الذين يصادرون على الجديد ويقفون في وجه التطوير؛ أساءوا إلى حليم بتصويره وكأنه ديكتاتور الغناء الوحيد في الماضي والحاضر والمستقبل، فظهر كما لو كان هو الذي أسقط عبدالعزيز محمود ومحمد قنديل وكارم محمود وغيرهم وحارب هاني شاكر ووقف حجر عثرة أمام تقلد مطربي الأجيال الجديدة بعده عرش الغناء، وهذا كلام خاطيء وسخيف لأن عبدالحليم كان ثمرة ذهبية لعصر اجتمعت فيه عبقرية عبدالناصر السياسية ورومانسية الزمن ورغبات التمرد علي القديم والتحرر من الآخر الغربي المستعمر، بالإضافة إلى بزوغ نخبة إبداعية في مختلف ألوان الفن والأدب من نزار قباني لإحسان عبدالقدوس وكمال الطويل ومرسي جميل عزيز ومحمد الموجي وعشرات ممن رفعوا راية الحب والثورة وبناء مجتمع جديد بقوة وصفها هيكل في عبارته الشهيرة "ليس هناك أقوي من فكرة آن آوانها".
أما محاولة المقارنة بين عبدالحليم الذي خرج من ساحة الحياة إلى تاريخ الغناء وعالم الأسطورة وبين أجيال كثيرة جاءت بعده تبقى مقارنة ظالمة أشبه بمقارنة الأهرامات بمترو الأنفاق، الأولى تنتمي إلى التاريخ وتشير إلى حضارة ظاهرة في عصرها بصرف النظر عن قيمتها في العصر الحالي، والآخر في قلب الحياة مهما كانت أخطاؤه فإن ميزته الأساسية في الحضور اليومي والحي الذي يمس حركة ومصالح الناس.
هذه هي عبقرية التجدد، وبالتالي لابد أن نحترس من ترسيخ ثنائية جديدة اسمها عبدالحليم والشباب، فهؤلاء جميعاً أبناء عبدالحليم بصورة أو بأخرى، وإذا كنا نلومهم في اختيار نوعية الموسيقي والكلمات فلنتوقف قليلاً لنتأمل ما يدور حولنا في الشارع والعالم، فهل يعقل أن يغني أحد في هذا العصر: "ابنك يقول أنا حواليا الميت مليون العربية.. ومافيش مكان للأمريكان بين الديار"؟!! لقد كانت أغنية وطنية عظيمة في الستينيات ولكنها الآن نكتة كاريكاتورية.
وهل يعقل كذلك أن يتحمل إيقاع الشباب السريع كلمات "فاتت جنبنا" و"أي دمعة حزن لا"، ناهيك عن المدة الزمنية الطويلة لكل أغنية؟ لاشك أن عبدالحليم نفسه أدرك في نهاية حياته طوفان التغيير القادم وحاول أن يركب الموجة الجديد، فأعاد توزيع بعض أغنياته بسبعة عازفين فقط بدلاً من الأوركسترا الضخم الذي كان يصاحبه، وهو الذي استبدل بعد نصر اكتوبر افتتاحية حفلاته بأغنية "عاش اللي قال" بدلاً من "أحلف بسماها وترابها" لأنه أدرك أن الثأر قد تحقق ولابد للنصر من أغان جديدة.
لاشك أن عبدالحليم الذي حزن كثيراً في زمن السادات لمنع أغانيه الوطنية التي أرخت لزمن عبدالناصر ما كان ليتحمل مثلاً حزن ما بعد كامب ديفيد فكان رحيله ختاماً قوياً لمسيرته الغنائية والنضالية، لأنه لو عاش ما كان ليستطيع مواجهة المتغيرات العاصفة التي اجتاحت كل شيء واسألوا الباقين علي قيد الحياة من هذا الزمن من ملايين البسطاء العرب الذين يعيشون زمناً ليس لهم ويصرون على الانتماء لزمن ليس هنا.