ما زلت أتذكر جملة حوار عبقرية كتبها أستاذى الجليل وحيد حامد فى فيلمه «اضحك الصورة تطلع حلوة»، جاءت على لسان العملاق الراحل أحمد ذكى، حينما كان يتحدث مع ابنته القادمة للدراسة من الريف إلى العاصمة، حيث قال لها نصاً: «تهانى.. أولاد الأغنياء بيتجوزوا بفلوس أهاليهم، أما بقى أولاد الفقرا اللى زينا فماعندهمش حاجة بيتجوزوا بيها غير شرفهم»، إنه الشرف.
وأتذكر أيضا الصول عبدالرؤوف حفيشة، رحمة الله عليه، أحد أفراد حراسة والدى بالمقر الذى كان يتمتع بشارب كبير أشبه بشارب عشماوى الشهير، وقد سألته يوما عن سبب تمسكه بهذا الشارب، على الرغم من أنه يعطى له طابعا مخيفا فأجابنى: «أنا ماعنديش يا باشا غير شنبى ورجولتى عشان أتباهى بيهم»، إنها الرجولة.
أتذكر أشياء كثيرة من هذا القبيل جميعها تَصُب فى مصلحة المواطن المصرى الذى تعد أخلاقه وعاداته وتقاليده هم مدعاة فخره ونقاط قوته الحقيقية، أمام مميزات كثيرة أخريات يتحلى ويتباهى بها مواطنو بلاد وثقافات أخرى كالبترول أو المعرفة والتكنولوجيا أو التفوق الذرى أو أو أو أو.. إلخ.. ظل المصرى محافظاً وبجدارة بين كل الجنسيات على لقب ابن البلد المتدين بالفطرة الشهم الذى يتحلى بالرجولة وخفة الدم والجدعنة، وربما لم ينافسه على تلك الصفات الفطرية أحد على الإطلاق.
ولكن فجأة وبدون سابق إنذار حدث بركان، طفحت معه وبه ومن خلاله وإليه، صفات غريبة حقاً على مجتمعنا المصرى بصفة عامة وعلى الشخصية المصرية بصفة خاصة، حيث اختلت الموازين وأفرزت البالوعات نغمة نشاز ظلت تعزف منفردة وتلوث عن عمد كل جميل، وبكل أسف تسيّدت الموقف على مدار أكثر من خمس سنوات، انتشر القبيح ووجد من يساعده على هذا الانتشار وتغير المصريون وتغيرت أخلاقهم حتى دراما الأفلام والمسلسلات تحولت بقدرة قادر من وسيلة لتقديم القيم والمعانى الجميلة والنبيلة إلى ضرب وسحل وتوتر وإدمان وفجاجة وأغانى سوقية.. أصبح الكل ينهش فى بعضه البعض، وتحولت الجرائد والبرامج إلى ساحات قتال، والانتقام أصبح سيد الموقف فتشاهد فيديو لسحل وتقطيع ضابط مباحث فى زفة بحارة، وتسمع عن ابن قتل أبيه، وتلميذ أشعل النيران فى كونترول مدرسة ومدرس أصاب طالب بعاهة مستديمة، وفلان يشمت فى مرض علان، وآخر يتشفى فى سجن ترتان، ومنظّر يخرج علينا على الهواء يسب سيدات الصعيد ويطعن فى شرف نصفهن! وآخر يَتهم الجيش والشرطة وآخر يشكك فى القضاء.. والمعايرات والتهكم انتشرت واستشرت فى البلاد، ومؤخراً نشاهد علناً، نحن المصريين، سيدة مسنة تجرد من ملابسها وتسحل فى زفة بالصعيد!! أنا لا يهمنى ديانتها ولا المغزى من وراء الانتقام منها ولا فعلة المتهمين أنفسهم، قدر ما يهمنى موقف باقى الأهالى الذى رأوْا وسمعوا بهذه الجريمة الذين لم يتدخلوا!! إنها المنيا أى الصعيد المصرى مركز القوة والشهامة والرجال، والأكثر استفزازا أننا جميعاً نقف صامتين أمام تسييس القضية وتحويلها إلى فتنة طائفية حقيقية، ومعالى السيد المحافظ يعلن أنه لا داعى لتكبير القصة! والدولة تسمح للكنيسة أن تتدخل وتحل هى الأزمة فى اعتراف واضح وصريح أننا نعانى من مشاكل الفتنة الطائفية فى عام 2016!!
والإعلام والصحافة يزايدان وتخرج مصطلحات كتعرية مصر ويكتب فلان ماذا لو كنت قبطيا وآخر ماذا لو كنت مسلماً!! وشيوخ السبوبة يفسرون.. إلخ.
إنها الحرية يا سادة حينما يساء استخدامها.. إنها نتاج الفوضى وتسيب الدولة فى مواجهة حاسمة مع أعدائها الذين أصبح منهم بكل أسف النائب البرلمانى والكاتب الصحفى والإعلامى بل والوزير وهكذا.. لقد جعلت شهوة الحرية والفوضى المواطن البسيط يتخلى عن أنبل سماته التى منحه الله إياها مجاناً، وينزل إلى المعترك الفوضوى الأعظم بمبدأ «اشمعنى أنا»، الحزم والمواجهة هما الحل من جهة ومن جهة أخرى العودة إلى عاداتنا وتقاليدنا وهويتنا المصرية التى تاهت وسط صخب وضجيج الفوضى الخلاقة والمؤامرات والعولمة، وما إلى ذلك من علامات اقتراب الساعة.. انتهى.