وسط حفل أسطورى لنقل المومياوات الملكية من المتحف الكبير إلى المتحف القومى للحضارة، يضرب الشعب المصرى المثل على عمق التاريخ وعظمة الحضارة، وهو ما جعل العالم يقف أمام فعل المصريين بانبهار شديد، فها هو يواصل مسيرة العراقة التى لا تنضب من خلال مشهد مهيب لم يراه العالم من قبل، ليصطف سكان الكون من أقصاه إلى أدناه أمام شاشات التلفاز، وتتسابق وكالات الأنباء العالمية والصحف الدولية فى نقل الحدث الفريد، واصفينه بالحدث الأعظم الذى لا يتكرر، لتؤكد مصر شموخها من جديد، ولسان حال شعبها، نحن التاريخ، نحن الحضارة، نحن الأصالة.
لتثبت مصر أنها ما زالت صانعة التاريخ للحضارة الإنسانية، من خلال مواصلة إبداع يُذّكر العالم بحضارة عريقة سبقت حضارات شعوب الأرض، حضارة أذهلت العالم والعلماء بفكرها وعلمها، وما زالت تترك فى عقله ووجدانه بصمات وأفضال، وهذا ما تحرص عليه الدولة المصرية وقائدها دوما، معتبرين أن هذا رسالتهم للعالم منذ فجر التاريخ، ولهذا حرص الرئيس على استقبال الموكب فى مشهد يعكس إيمانه بقيمة الحضارة والثقافة، ولإيمانه بأن المتاحف ذاكرة الأمة المصرية لأنها تتفرد دون جميع الأمم بتراثها الأثرى المتنوع عبر جميع الحقب التاريخية الممتدة فى جذور الزمن عبر آلاف السنين.
والعظيم، أن ما تفعله مصر الآن ليس بغريب عنها، فهل هناك أحد على وجه البسيطة ينكر أن مصر ما زالت مصر القادرة والحاضرة والأبية، وهى أول دولة فى العالم القديم عرفت مبادىء الكتابة وابتدعت الحروف و العلامات الهيروغليفية، وهل هناك أحد ينكر أن ما حدث بمثابة عرس حضارى للإنسانية جمعاء، وأن المصرى ما زال رمزا للعطاء والافتخار، مثل أجداده القدماء.
بل الجميل حقا، أن الشعب المصرى أكد خلال هذا المشهد الأسطورى أنه يسير على درب أجداده، فمثلما كانوا حريصين على تسجيل تاريخهم بخطوات حضارية عظيمة لتصبح أول دولة فى العالم لها تاريخ مكتوب، ولها نظم ثابتة، ها هو الآن تواصل هذا العطاء فى القرن الـ21 بتدشين مدينة ثقافية عالمية بها متحف قومى للحضارة فى مدينة الفسطاط التاريخية، ليكون واحداً من أهم وأكبر متاحف الآثار في العالم، حيث ستحكى تلك المدينة أكثر من 50 ألف قطعة أثرية مراحل تطور الحضارة منذ أقدم العصور حتى العصر الحديث.
وما يزيد الأمر عظمة وجمالا، أن هذا المشهد المهيب للمومياوات الملكية، أثبت أن مصر أُمّا للحضارات الإنسانية جمعاء، فهى مهدًا للحضارة الفرعونية، وحاضنة للحضارة الإغريقية والرومانية ومنارة للحضارة القبطية، وليس هذا فقط، بل حامية للحضارة الإسلامية، فهى أرض الأنبياء والمرسلين، حيث جاء إليها أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام وتزوج منها السيدة هاجر، وجاء إليها أيضا يوسف عليه السلام، وأصبح فيها وزيراً وتبعه إليها أبوه يعقوب، ودار أعظم حوار بين الله عز وجل وبين موسى عليه السلام على أرضها، ولجأت العائلة المقدسة السيدة مريم العذراء والسيد المسيح طفلاً ويوسف النجار إلى مصر، لتصبح واحة السلام وملتقى الأديان السماوية الثلاثة.
وأخيرا.. إن ما شاهده العالم من عرس حضارى كبير، يعكس وجود قيادة سياسية تسعى بكل قوة إلى تعظيم دور المؤسسات الحضارية والأثرية والثقافية لإعادة تشكيل الوعى المصرى، بل العمل على إعادة صياغة القواعد الحضارية بشكل يواكب العصر، لتستمر مصر فى احتلال صدارة الواجهة العالمية كأداة من أدوات قوتها الناعمة، ولتعيد رسم دوائر اهتمامها لتتطابق مع مصالحها الوطنية العليا وتظل نموذجا للعطاء والإنسانية عبر العصور..