لا حاجة لبيان حال المرأة قبل الإسلام حتى يتبين الناس كيف أنصفها الإسلام، فما من أحد يعرف شيئًا عن إسلامه، وعن التاريخ إلا ويعرف أن حال المرأة تغير بالإسلام تغييرًا جذريًا، أزاح عنها كل مهانة ونقيصة، وجعلها فى المرتبة اللائقة بها، فالمجتمع المسلم يتكون من رجل وامرأة، يشتركان فى تكوين أسرة مترابطة تقوم على الألفة والمودة والرحمة، لكل طرف من أطرافها حقوق واضحة مقابل واجبات تلزمه، فى منظومة متشابكة متكاملة أشبه ما تكون بمكونات ساعة متقدمة لكل جزء صغير فيها فائدة إن اختل تضررت بكاملها.
وبالفهم الصحيح لما جاء به الإسلام وشريعته يجد كل طرف من أطراف الأسرة رجالًا ونساءً، كبارًا وصغارًا حقه كاملًا، وكأنه فاز بالنصيب الأكبر مع أن الجميع سواء، ولا عجب فى ذلك، فالذى عنى بالأسرة ونظامها هو كتاب الله الخالق للرجال والنساء، والعالم بما يصلح نفوسهم وأحوالهم، ومن بعده سنّة رسوله الكريم قولًا وتقريرًا، وإن كان الموروث السابق على الإسلام الذى تكون على أساس الغلبة الذكورية قد تسلل منه الكثير إلى سلوكيات الناس بعد الإسلام، ولا زال بيننا حتى يوم الناس هذا، ولكون هذا المتسلل قد نفذ إلى فكر كثير من المسلمين، فاختلط بفكرهم وأصبح جزءًا من ثقافتهم، وكأنه مما جاءت به شريعة الإسلام والشريعة منه براء، وحتى كثير من العلماء والدعاة تسلل إلى فكرهم بعض هذا الموروث، حيث غلب على خطابهم الدعوى الجانب الذكورى، فترى الحديث عن الحقوق وكأنها خاصة بالرجال دون النساء، أما الحديث عن الواجبات فهو خاص بالنساء دون الرجال، وكأن الرجال بأيديهم وبإرادتهم تدخل المرأة الجنة أو النار، أما هم ففى الجنة وإن غضبت عليهم النساء!
وحقيقة إسلامنا ليست كذلك، فالإسلام رفع المرأة لتكون فى المقعد المجاور للرجل، للرجل اختصاصاته المناسبة لطبيعته التى خلق عليها، والمرأة لها اختصاصاتها التى تناسب طبيعتها التى خلقها الله عليها، وبقدر الالتزام فى القيام بالمسؤوليات وأداء الواجبات قبل البحث عن الحقوق يكون التفضيل: «إِن اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ، وَلَا إِلَى صُوَرِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ»، ويستطيع أى مطالع لكتاب ربنا، جل وعلا، وسنّة رسوله، صلى الله عليه وسلم، ولكتب تراثنا استخراج الكثير من مظاهر التكريم للمرأة فى الإسلام، ومنها:
أن كتاب الله ذكَّر الرجال بأنَّ المرأة مخلوق مثله تمامًا، وأنها مصدر السكينة والمودة والرحمة، حيث جعلها من آياته البينات الواضحات التى امتن بها على الرجال: «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ»، ولذا استنكر ما كان يفعله الجاهليون من التخلص منها وليدة خشية العار بقول: «وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَىِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ»، بل عاب مجرد الانقباض الذى يصيب من يُبَشَّر بها ويُسَر بالذكر بقوله: «وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ، يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِى التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ»، وبقوله «وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ».
ومن هذه المظاهر: اعتبار المرأة كالجوهرة النفيسة التى يجب أن تصان عن الابتذال، وتحمى من أعين المتفلتين من تعاليم شرعهم التى تأمرهم بغض البصر، وتحريم نظر الشهوة إلى من ليست حلًا له، فألزمها بزى يحفظها ترى فيه غير المدركات لسره أنه من القيود المضيقة على رغباتهن وميولهن، وهو ليس كذلك، ففى عادة الناس أن مجوهراتهم ونفائس أموالهم تحفظ، قال صلى الله عليه وسلم: أكثر الأماكن أمنا وتحصينا حيث يجعلونها فى خزائنهم الحصينة ويتفقدونها من آن لآخر، وتتعلق أعينهم وربما ينامون بالقرب منها خوفًا من سطو لص عليها، وأن قليل القيمة لا خوف عليه فيترك ربما على أبواب بيوتهم، فزى المرأة المعهود هو زى التكريم والصيانة لعزيزة على شرعها، وليس زى التقييد والتضييق كما تفهمه صاحبة النظرة القاصرة التى تضر بنفسها حين تكشف بعض جسدها بدعوى الحرية من حيث لا تدرى.
ومن مظاهر تكريمها: أن شرعنا جعل صلاتها فى بيتها أفضل من صلاتها فى المسجد، وأنها كلما توارت بها فى عمق بيتها حتى تصل إلى مخدعها كانت أقرب لمراد شرعنا، لما فى ذلك من سترها وخشوعها وانقطاعها عن الشواغل لتكون فى معية الخالق، ولذا قال: «صَلَاةُ الْمَرْأَةِ فِى بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِى حُجْرَتِهَا، وَصَلَاتُهَا فِى مَخْدَعِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِى بَيْتِهَا»، ومن تكريمها أن شرعنا اشترط لحلها لرجل أن يكون الحل فى ظل عقد ورباط وميثاق غليظ وهو عقد الزواج، الذى أحاطه شرعنا بسياج حماية وبناه على قواعد سليمة وأسس متينة، تراعى مصلحة طرفيه، وجعل من آثاره ثبوت مهر للمرأة استحب تخفيفه تيسيرًا على الشباب ولم يمنع أن يبلغ ما بلغ طالما أنه بالتراضى فهى عزيزة على شرعها، ولذا أجاز أن يكون مهرها قنطارا من الذهب ونحوه طالما كان فى الاستطاعة، ولا يمثل مشقة لدافعه، وأنه لا يحل المطالبة بشىء منه إذا تعذر استمرار هذا الزواج ووقع الطلاق: «وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا».
كما إن شرعنا أمر الأزواج بحسن عشرتهن، والرفق بهن، والصبر على ما يصدر عنهن نتيجة ضغوط الحياة وعاطفتها الزائدة التى تجعلها تكثر الانفعال، لأمور ليست بالكبيرة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا».
ومن مظاهر تكريمها هذا التوجيه اللطيف للرجال إن تزوج أحدهم بامرأة لها طفلة من زوج سابق، أن يقبل اصطحاب زوجته لابنتها معها، إن هى رغبت فى ذلك، لتتربى فى بيته وعلى حجره كما لو كانت ابنته من صلبه، فعاطفة الأم تجعلها راغبة فى ضم ابنتها إلى حضنها حيث كانت، وتتألم فى نفسها إن هى أُبْعِدَتْ عنها، ولأن البنت لا سيما وهى طفلة شديدة الارتباط بأمها، وقد تضرر نفسيًّا إن حرمت منها، فيصعب على غير الأم منحها الحنان الذى تجده فى حضن أمها، فكان هذا التوجيه اللطيف غير الملزم مع إرادة الشرع حصوله، ولكن لا وجه لإلزام الرجل بتربية ابنة غيره وهو من البلاغة القرآنيَّة فى أعلى صورها، حيث قال فى معرض بيان المحرمات من النساء على راغبى الزواج: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِى أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِى فِى حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ»، فوصف بنت الزوجة التى لا يجوز لزوج أمها أن يتزوجها بالربيبة، فلم يقل بنت الزوجة، وإنما قال الربيبة من التربية والتنشئة، أى أن مكانها الطبيعى فى بيت زوج الأم مع أمها وفى حجره.
وليس أدل على حفظ المرأة وتكريمها من أن شريعتنا جاءت بعقوبتين حديتين تحقيقًا لحفظ عرضها وسمعتها، فحد القذف لمجرد ذكرها بالفحش واتهامها بالفجور من دون بيّنة، حيث يعاقب قاذفها بجملة من العقوبات بعضها بدنى وهو الضرب ثمانين جلدة، وبعضها معنوى وهو: إسقاط مروءة القاذف.
فلا يصلح شاهدا فى قضية عند القاضى، ووصفه بالفاسق قال، تعالى: «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ».
وحد للمعتدى على عرضها بالفعل وهو الزنا، الذى ترتفع فيه العقوبة ليجلد الفاعل غير المحصن مئة جلدة، ويرجم المحصن حتى الموت: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ»، والرجم ثابت بالسنة القوليّة والفعليّة، فعنه أنه قال: «خُذُوا عَنِّى، خُذُوا عَنِّى، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ»، كما أمر برجم ماعز والغامدية، بعد أن ارتكب كل واحد منهما جريمة الزنا واعترف على نفسه عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ويلاحظ هنا أن العقوبة وقعت على ماعز وعلى الغامدية رغم أن الجريمة وقعت باختيار منهما ولم تكن عن إكراه، لأن تكريم الإنسان وحماية عرضه عن الابتذال ليس اختياريا، بل هو تشريع إلهى ومقصد من مقاصد شريعتنا الكلية التى جاءت لحمايتها وصونها، تكريمًا للرجال والنساء على السواء ومنعًا لاختلاط أنسابهم، فإن فرط بعضهم فيه بدعوى الحرّية، فإن شرعنا لا يفرط فى حمايتهم من أنفسهم ولو كان بالعقاب المهلك، وللحديث بقية بإذن الله.