أمر مبهج أن يجتمع فى مصر مرة ثانية عشرات المثقفين المصريين والعرب، ليتناقشوا فيما بينهم، ويتباحثوا فى أمر ما، أقولها صادقا ولست مازحا، حقا فرحت حينما رأيت هذا التجمع الكبير من مثقفى مصر والعالم العربى فى أروقة المجلس الأعلى للثقافة، ضمن برنامج مؤتمر «تجديد الخطاب الثقافى»، الذى يضم مشاركات بحثية من 17 دولة عربية وأوروبية، فقد غاب هذا المشهد عن مصر كثيرا، ومجرد عودته يوحي بأن الحراك الثقافى سوف يعود مرة أخرى، وأن مصر الثقافية بدأت فى استرداد عافيتها، وأنها ما زالت قادرة على اجتذاب العقول الكبيرة والأفكار الطموحة، فلم تعد المؤتمرات الآن مناسبة سعيدة للقاء الأصدقاء والنقاش حول المجردات، لكنها أصبحت أداة من أدوات «التسويق الإعلامى»، وإثبات الحضور الإقليمى ووسيلة من وسائل بسط الهيمنة وفرض التأثير، وهى كلها أهداف يمكن اعتبارها «استراتيجية» تقاوم الأوضاع المتهرئة والغياب المخجل، وهو أمر غاية فى الأهمية والخطورة فى آن واحد.
نعم لم تعد المؤتمرات الآن شكلا من أشكال «الترف والرفاهية»، فغالبية دول العالم «المتحضر» تعد هذه المؤتمرات لاعتبارات سياسية وسياحية ودبلوماسية وليست ثقافية فحسب، وبهذا فإننى سعيد حقا بمؤتمر «تجديد الخطاب الثقافى» الذى تقيمه وزارة الثقافة هذه الأيام، لكنى فى ذات الوقت لا أظن أننا سنستفيد من هذا المؤتمر بالشكل الكامل، ولكى نستفيد من هذه المؤتمرات «مستقبلا» أقصى استفادة ممكنة، يجب أن تقوم وزارة الثقافة بالتنسيق مع وزارات السياحة والآثار والإعلام لكى تضع هذه الوزارات ضيوف المؤتمر على لائحة اهتمامها، فمعظم ضيوف هذه المؤتمرات، إن لم يكن كلهم، من أصحاب المنابر الصحفية والأدبية، كما أن إعلام بلادهم يتبعهم أينما ذهبوا، وإذا رتبنا لهم عدة زيارات لأشهر الأماكن السياحية والثقافية، سيعود هذا بالنفع البالغ على صورة مصر فى العالم، كما يجب أن تقوم الوزارة بالتنسيق المسبق مع الصحف والفضائيات لبحث إمكانية استضافة ضيوف المؤتمر فى لقاءات تليفزيونية أو صحفية، وتكون هذه الأمور معدة مسبقا، بحيث يعرف كل ضيف أنه سيأتى ويجرى مقابلة إعلامية، ويقوم بزيارة ثقافية وحضارية بالإضافة إلى الاشتراك فى المؤتمر.
هذا كله فى جانب وموضوع المؤتمر فى جانب آخر، فقد اختارت وزارة الثقافة أن يكون عنوان المؤتمر هو «تجديد الخطاب الثقافى»، وفى الحقيقة فإننى أجد هذا العنوان فى غاية الأهمية، لأنى أرى أن الخطاب الثقافى الذى يتم تصديره إلى الرأى العام أصبح باليا، وقد ناديت بتغيير هذا الخطاب فى العديد من المقالات والعديد من المؤتمرات، التى كان آخرها مؤتمر المثقفين العرب الذى عقد فى مكتبة الإسكندرية، منتصف نوفمبر الماضى، لكنى مع هذا صدمت حينما رأيت عناوين المشاركات البحثية وأسماء بعض المتحدثين، فقد خرج الكثيرون عن «النص» وتكلم بعضهم فى الـ «أى كلام» وبدل البعض عنوان المؤتمر، فبدلا من أن يبحث عن سبل تغيير الخطاب الثقافى، شن حملة من أجل تجديد الخطاب الدينى.
الخلاصة هى أننا يجب أن نتعامل مع المؤتمرات بآليات العصر الحديث، فنتخذ منها مناسبة للترويج السياسى والثقافى والسياحى والإعلامى، ومعملا لإنتاج الأفكار والمقترحات، ومختبرا يتلاقح فيه الجميع مع الجميع فنضمن تجديد الفكر وإزالة الحواجز، وصناعة المستقبل.