في المرات القليلة التي إلتقيت بالموسيقار وعازف الكمان الشهير عبده داغر، تعلمت فن الإصغاء لإيقاعه في الحكي عن الماضي، والهارموني واللون النغمي في ارتجالاته المحكمة عن المستقبل، كان يلفت إنتباهي ويذهلني حين يتحدث وكأنه يقدم شرحاً بديهياً لأمر شديد الأهمية في صلب ثقافته التي تربى عليها، وفي نفس اللحظة يفسر كل ما هو مستجد سواء في الموسيقى أو المجتمع، لم يكن يخطر في بالي أن هذا الإصغاء المانح للمعرفة سيكون واحد من أبواب تنمية تذوقي للسماع الموسيقي.
أقر منذ البداية أنني واحدة من الناس المصابين بالصمم الموسيقي، وهو اعتراف ساذج لن يضيرني، إنه فقط يعكس حالي لو قررت مثلاً أن أدندن لحناً شهيراً، فلن يحدث أو يتم أبداً بطريقة سليمة، النتيجة دائماً هي النشاز الواضح والصريح، حتى وإن كنت أحب هذا اللحن ويشكل مساحة ما في وجداني العاطفي، لكنني في حضرة عبده داغر كنت أستسلم تماماً لطريقته في المخاطبة، بما تحوي من تكامل واضح يكشف المزاوجة بين الموسيقى والمجتمع، على الرغم من أنه ليس من أصحاب النظريات الكبرى للربط بين الفن والمجتمع، بل كان يستعرض ببساطة هي المدخل للفهم دون أي التباس.
طاقة عبده داغر الاستحواذية هذه لم تتأت فقط من عفويته، بل أيضاً من وهج الموسيقى نفسها التي تتسلط على أرواح الناس وتضبط نبضهم وحالاتهم النفسية، إنه موسيقار من أمة القرآن تتلبسه أرواح العمالقة العظام مثل باخ وفيردى وهندل، كما قالوا عنه في الغرب وتحديداً في إحدى المجلات الألمانية؛ تعبيراً عن ذهولهم حيال تجربته التي أبحرت في الموسيقى دون حدود، ورسمت لوحة لعازف كمان شاب خرج من طنطا؛ مدينة الفن والإبداع الموسيقى، مدينة شيخ العرب، محفل الموالد المتعددة وملتقى الدراويش والطرق الصوفية والمنشدين والمداحين والمغنيين الشعبيين وحتى الغوازي، كل شيء ينطق فيها بالموسيقى، مدينة أمينة رزق، محمد فوزي، هدى سلطان، نعيمة عاكف، زهرة العلا، حتى عبد الحليم حافظ عمل لمدة أربع سنوات مدرساً للموسيقى في مدرسة طنطا الابتدائية للبنات، مدينة عبده داغر الذي تسلل منها يافعاً وأراد أن يتحرر من سطوة الأب، صاحب معهد الموسيقى الصغير ومحل صناعة العود، ليشكل ذاته الفنية الخاصة.
مما لاشك فيه ساعدته خلفيته الموسيقية؛ لكن جاذبية مشروعه أنه عفوي وتلقائي، ذاتي الصنعة، يختصر طموحاً كبيراً، حوله من عازف صغير جاء إلى العاصمة، إلى عازف شهير يعزف أوتاره في حفلات الكبار مثل أم كلثوم وعبدالوهاب وعبد المطلب، من جملة موسيقية كانت تبحث عن مستقر إلى عمارة موسيقية احتوت كافة النغمات، من عازف كمان إلى ملك التقاسيم ومؤلف مقطوعات موسيقية ذائعة الصيت، يرسم فيها ألوان الشرق على أوتار كمانه، منها: الشباب، النيل، ليالى زمان، ابتهالات، المشربية، اختانون، الريشة والكمان، مصر، من موسيقار مصري أسس مع عبدالحليم نويرة فرقة الموسيقى العربية، ووضع منهجًا لتدريس الموسيقى الشرقية في الجامعات، إلى موسيقار عالمي؛ عزف مؤلفاته على مسارح عالمية، وصُمم له تمثال بجوار تمثال بيتهوفن في متحف الموسيقى في ألمانيا، من فرع في عائلة تعشق الموسيقى، إلى جذر كبير لأجيال موسيقية في عائلته، فابنه هو الموسيقار خالد داغر المؤلف الموسيقي وعازف الشيللو وواحد من أهم صناع الموسيقى التصويرية في الدراما السينمائية والتليفزيونية، وحفيده عازف الكمان الفنان مصطفى داغر.
برحيل عبده داغر بعد رحلة عطاء فني استمرت لأكثر من 60 عامًا، برحيل فنان مشاكس، مغامر، منخرط حتى النخاع في مشروعه الموسيقي المتميز، تغيب قامة فنية عالية، لكن لا تغيب بصمته الخاصة التي جاهد خلال مشواره الحافل، لتكون إضافة لتاريخنا وميراثنا الموسيقي.