كاذب من يقول إن الغريب أعمى
فى تلك الرحلة الخاطفة التى حدثتك عنها خلال الأسابيع الماضية، كنت أبحث عن وجه الصين الذى لا نعرفه، لم أخدع بالوجه الذى يصدره الغرب لنا، ولم أكتف بالوجه الرسمى الذى نراه فى المناسبات، وبحثت بعين الغريب عن وجه الصين الحقيقى، وعين الغريب فاحصة، تكذب من يدعى أن «الغريب أعمى ولو كان بصيرًا».
فى مدينة جوانزوا الصينية رأينا الصين الحقيقية، هنا ظهر وجه الصين «الشاب»، فقد اصطحبنا فى جولاتنا شباب لنقابل فيها «شباب» يستعرضون إنجازات «شباب»، وهناك زرنا شركة لعمل إلكترونيات القطارات، وأخرى لعمل الطيارة من دون طيار، بالإضافة إلى الجريدة المسائية «يانج شونج» التى يشغل قيادتها شباب أيضا، وفى الحقيقة فإن معظم هذه المنشآت كانت فى حضن «الخضرة» وتحيط بها المياه، وهنا قال لنا «لطفى»، مترجم الخارجية، إن الحكومة الصينية أنشأت المدينة الصناعية فى هذه المنطقة التى تعد منطقة غابات، لكنها حافظت على هوية المنطقة واحتفظت بأشجارها العملاقة وبحيراتها الواسعة، فظهرت المدينة الصناعية وكأنها «منتجع سياحى».
فى جوانزو رأينا الوجه الإنسانى للصين، شعبا بسيطا وهادئا، مفعما بالحياة، يحب العيش والابتسام، وخلال جولاتنا فى الأسواق الصينية كانت البسمة لا تفارقنا، نبتسم مع البائعين، ونتجاذب أطراف الحديث مع الماشين، وقد ظهر فى هذه المدينة مدى اعتناء الصينيين بالخضرة، حتى إنهم كسوا الكبارى والطرقات بها، كما رأينا بها كيف يعيش العرب والأجانب بحرية تامة، حتى إن أحد شوارع المدينة الشهيرة تشعر فيه وكأنك فى أى بلد عربى، وفيها زرنا أحد القصور التاريخية التى خصصها الصينيون لإحياء التراث الصينى فبقيت كقلعة لتكريس الفن الصينى واستمراره، كما حضرنا إحدى حفلات الزواج الجماعى على الطريقة التقليدية، وزرنا فيها أحد الأحياء القديمة الذى يعده الصينيون متنزها عاما، يلعبون فيه ألعابهم الشعبية ويتمتعون فيه بالسير بجوار جداول المياه والمرور على البيوت القديمة ومشاهدة الأوبرا الصينية بشكلها التقليدى، وفى أحد أركان هذه المدينة جلس عجوز ممسك بيده قوسا مثل قوس آلة الكمان، ومضى ليعزف على «صفيحة منشار» إحدى مقطوعات بيتهوفن، كما استعرض أمامنا وهو يعزف على ذات المنشار ممسكا بيده ما يشبه المطرقة البلاستيكية، وبعد أن غادرنا هذا الرجل على مضض، استضافتنا عمدة المدينة بحفاوة بالغة واستعرضت معنا تاريخ هذه المدينة العريقة التى مازالت تقوم بوظيفتها كأهم ميناء فى الصين وأحد أهم الموانى فى العالم منذ مئات السنين بلا انقطاع، وبعد أن تشبعت روحنا بكل ما هو «صينى» غادرنا بلاد التنين، وقد تشكلت فى أذهاننا صورة أخرى عن تلك البلاد العظيمة كعظمة سورها، ومن يومها كلما ذُكرت الصين أمامى تذكرت هذا العجوز الجالس على المقعد الرخامى فى حديقة جوانزو، وهو يحول منشار الخشب إلى آلة موسيقية بالغة الرقة والعذوبة، متحديا قسوة الحديد، وفاتحا بابا سحريا للخيال الذى جعله يتقن عزف الموسيقى العالمية بشروطه هو ووفقا لرغباته هو، وفى الطريق إلى مصر صرت أسترجع تلك النغمات متمنيًا أن ينعم الله علينا بحكمة هذا العجوز وصبره وإخلاصه فى بناء بلدنا الذى نحب.